تمثل المصالحة نقطة انطلاق جديدة في العلاقات بين الأفراد والفئات المتنوعة داخل المجتمع، فهي الكابح القوي الذي يوقف عجلات النزاع عن الدوران، ليرسم خارطة جديدة وجدية من التعايش المبني على تفاهمات ترسخ لعلاقات ذات مسار طولي باتجاه المستقبل المأمول الذي يطمح كل فرد سوي ان يكون آمناً ومزدهراً.
ان اكبر مهددات وحدة المجتمع هي النزاعات المنبعثة عن خلل في التفكير الفردي والجمعي الناتج عن تعارض في مصالح سياسية او عرقية او مذهبية او قبلية. لذلك جاءت كل الدساتير والقوانين السماوية والوضعية لتنظم الطرق التي تسهل لكل فئة او فرد الوصول الى مصالحه، وفقاً لاستحقاقه المشروع.
ان تغليب المصلحة الذاتية التي تتعرض وتتقاطع مع مصالح الاخرين لا شك يشكل معول هدم لبنيان المجتمع، ومن ثم سيؤدي ذلك الى ضياع واهدار لمصالح الجميع سواء على صعيد المستقبل المنظور ام البعيد.
ان المصالحة غالباً ما تتم عن طريق تخلي المتنازعين عن بعض ما يعتقدون انه حق لهم، ولذا فهي نتاج تضحية ونكران للذات، وهي ضرب من ضروب الشجاعة، على عكس ما يتخيله قاصرو النظر.
لا اعتقد ان هناك مجتمعاً خالياً من التنوع الاثني، وغالباً ما كانت تلك المجتمعات عرضة للصراعات الاثنية الا ان الكثير منها والتي تعيش الآن حالة استقرار ونماء علمي واقتصادي وثقافي استطاعت ان تتخلص من تلك الصراعات عن طريق المصالحة والتعايش السلمي والذي يمثل القاعدة الرصينة التي يبنى عليها تطور المجتمع وازدهاره.
يقول نلسون مانديلا: ( اذا كنت تريد ان تصنع السلام مع عدوك، فيتعين عليك ان تعمل معه، وعندئذ سوف يصبح شريكك).
ومن هنا فان الخلافات والاختلافات مهما كبرت سوف تضمحل وتتلاشى عندما يكون الهدف واحداً والسعي مشتركاً، فان الوصول الى الهدف سيكون يسيراً عندما يكون السعي بقدمين لا بقدم واحدة.
ان اهم نتائج العمل المشترك انه يخفف من حدة التوتر و يخفض من وتيرة التشاحن والحقد، ومن ثم يهيئ لأرضية مستقرة لخلق اجواء من التفاهم والمسامحة والتصالح.ولأن بلدنا كغيره من البلدان مبن على قاعدة اجتماعية يغلب عليها التعدد الاثني بكل تفرعاته القومية والدينية والمذهبية والسياسية والاجتماعية والثقافية، والتي كانت الى حد ما منسجمة في علاقاتها مع بعضها على مر العصور، طالما توفرت لها البيئة المناسبة للعمل المشترك المبني على التساوي في الحقوق والواجبات، وان اكثر ما يبرز الاثر السلبي لتلك الاختلافات هو غياب القانون الذي ينظم علاقات ابناء المجتمع بعضهم مع بعض.
ولذا فان من اكثر السلبيات التي رافقت عملية التحول الجديد هو الانهيار المفاجئ للنظم والقيم والاعراف التي كانت تنظم حياة المجتمع، وكان للعوامل المختلفة التي اججت نار الحقد والكراهية والتباغض وتغليب المصالح الذاتية والآنية اثرها البالغ في توسيع الهوة وتعميقها، وهو ما مهد لظهور اشكال مختلفة من العنف والدمار المادي والاجتماعي. ومن الطبيعي ان تكون للأطراف الخارجية يد عابثة تمتد لإيقاد جذوة الخلاف كلما خبا جمرها انطلاقاً من اهداف متعددة ومتنوعة.
ان من اهم ملامح الحرص الوطني لدى قيادات المجتمع هو السعي الى ردم هوة الخلاف و جعل المصالحة المجتمعية هدفاً رئيساً واساسياً في كل خططها الآنية والمستقبلية، كونها السند القوي الذي ترتكز عليه كل عوامل تقدم البلد وتطوره وهي الركيزة الاساسية لتحقيق الأمن والامان، ومن ثم توكيد وترصين دور ومكانة العراق اقليمياً ودولياً.