الإدراك البصري لضبابيَّة الذات

ثقافة 2025/01/16
...

 ابتهال بليبل 


سعاد هندي، فنانة رائية تشكّل درجات اللون بطريقة تجعلك تتساءل مستفهماً عن خلل ما تظنه أصاب اللوحة، لكنك سرعان ما تكتشف أنه تعمد وقصد، فهي تميل إلى منطقة خاصة في التلوين تجدها مجدية في إنتاج المعنى الذي تريده، وهي تستكشف أعمالها المشحونة بمفارقات الشخصي والعام. فغالباً ما تستعين بتقنية الضبابية "سفوماتو"، حيث تطمس ألوانها الصاخبة بصرياً بانطباع يأخذنا نحو الشعور بالحنين تجاه المسافة أو الماضي، تجاه الواضح الغامض أو الغامض والواضح، فنبحث عن الملامح التي نريدها في تلك الوجوه التي قد تكون 

نحن!.

تستعمل هندي التي تخرجت في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد عام 1977 هذه التقنية الدخانية بامتياز، حيث يمتد الطلاء الزيتي بحرية نحو الخارج لإنتاج تعبير عن الغموض والهشاشة البشرية. 

فتتألف لوحاتها من كتل لونية وأجساد أغلبها من الإناث، حيث توفر للمتلقي تركيزاً بصرياً لإدراك أن ما ينظر إليه هو في حركة مستمرة بعيداً عن 

السكون. 

وباستعمال "الضبابية"، تملأ سعاد هندي لوحاتها بتوتر شديد، وتطمس الفضاءات المنتشرة حول الأجساد في محاولة لإزالة ما كنا نتصوره جزءاً أصيلاً من اللوحة، فينتج عن هذه الأعمال الدرامية لحظات مقنعة تدفع بنا نحو ذكريات قديمة.  وتساؤلات كثيرة عن محاولتنا استكشاف المغمور من حياتنا.

من خلال أعمالها التي تركز على الإناث كما أشرنا، تستكشف هندي الهوية الأنثوية وإمكانيات التعبير عنها، كل شيء في العمل تترابط أجزاؤه وتتحرك. 

الأجساد دائماً ما تتحرك وتندمج لتشكل علاقات جديدة وغير متوقعة مع الفضاء المفتوح الذي ربما بدا ثابتاً وغامضاً. إنها من أشكال الحرية. 

تشغل الشخصيات معظم مساحات اللوحات، ما يوفر تبايناً صارخاً مع الخلفيات، فظهورها لا يمكن فهمه بسهولة، إذ تجعلك تنظر إلى ما يحدقون إليه. نظراتهم، التي لا يُشار إلى اتجاهاتها إلا من خلال توجه الرؤوس، توجه أنظار المتلقي. غالباً ما تكون تحدق في لا شيء سوى الفضاءات.

لقد ارتبط وجود الوجوه التي لا يمكن تشخيص ملامحها بالضبط، بشكل كبير بالاحتمالات، إلى جانب ظهورها الذي يمنحنا شعوراً بالابتعاد، إذ إن نساء سعاد هندي يعشن في عالم خاص ليس من 

صنعهن. 

فبدت هويتهن تعكس تعقيدات الأنوثة التي تتجسد في كل ضربة فرشاة ولون وخط، إنها تعيد إنتاج هذه الكائنات اللونية فتمثل من خلال تجريبها جزءاً مخفياً في الذات. 

ومع ذلك، فإن ما قد يكون الأكثر إثارة في هذه الأعمال هو التشابه غير العادي في أشكال الشخوص، فهي ليست مجرد تلميحات بسيطة تجاه تدبير الحياة مع الجماعة، بل إنها تعمل كأجزاء لا تتجزأ من 

الآخرين. 

إن تلفع هذه (الموجودات) بالغموض هو جزء من استراتيجية المعنى الذي تريده الفنانة، لأنّ الوقوف أمام اللوحة لبرهة والتفرج عليها ثم المرور السريع، لن تتقبله سعاد، فهي تريد من  الوقوف أن يستمر طويلاً، أن تتسمّر الذاكرة وتختزن هذه التشكيلات  طويلاً، فوراء كل لون وكل حركة إشارة هناك معنى قابع في العمق.. معنى يعيد تدرجات اللون في ذهن المتلقي  بحسب ما تؤسس لذلك ذاكرته.