شعراء العُجُوز.. صحة التركيب والموهبة

ثقافة 2025/01/16
...

  د. سراج محمد 


قليلون هم الذين اختبروا التدوين العمودي المعاصر وأثبتوا قدما في رهان البساطة والتفرد، وتمكنوا من تقليل الفارق الذوقي والاستهلاكي بين قصيدة النثر والنص العمودي، بل أزعم أنهم انتهوا لاتجاهات جديدة جعلتنا نؤشر على أسمائهم حالما نفرغ من نصوصهم ، وأذكر منهم على سبيل التمثيل: أجود مجبل، هزبر محمود، عارف الساعدي، حسين القاصد، مضر الآلوسي، وياس السعيدي، ولعل السؤال النقدي الذي يواجههم لا يخص المعيار الفني بل التفكير وطبيعته، لقد أضاع النقدة وقتهم في الثرثرة المميزة حول التركيب وأطالوا المكوث في الباحات الخلفية للنصوص، أقاموا داخل الشكل والمضمون وأغفلوا شكل  ذلك المضمون. 

إن أصعب ما يواجهه الناقد هو تبني مظانا لا ينجح في إيصالها، ولا أدعي أني المكلف بهذه المهمة، بل أحاول قدر الممكن تحريك بعض المياه الساكنة، للخوض في خواص التدليل وكيفياتها وهي بطبيعة الحال متعلقة بنوع التفكير والمخزون المعرفي والثقافي والخبرة، فإن كانت هذه الأسماء وغيرها تمثل اتجاهات جديدة كما أزعم، والتي هي كذلك ليس لاعتبار التركيب ولعبة القول وحسب، بل شكل ذلك القول المتعلق بالموهبة المحضة والوعي، فماذا عن النسخة الشاعرة التي تتعثر في التركيب وتجيد اللعبة باشتراطاتها الكاملة؟ العينة التي أسميتها "شعراء العجُوز"، النموذج الذي يدفعك للانتظار طويلا في صدر البيت ثم يفتح لك الباب بقوة في العجز، حتى يفرط بإكرامك، يمكنني وأنا أتفحص هذا النموذج الشعري أن أؤشر على افتراق واضح بين الناقد ونقده، فالذات ليست هي الإجراء، والنكتة من هذا التأشير أن الأجراء لا يفهم طبيعة الشاعر ولا يليها اهتماما، بل يفعل ذلك الناقد، غير أنه لا يتمكن من ربط تلك الطبيعة بالاشتراط النقدي، ربما بداعي الكياسة أو الفساد الأدبي، وقد تتخطى هذه العلاقة دور النقد الأدبي إلى النقد الثقافي الذي يصر الكثيرون على وسمه بالمنهج، ولكن ما علاقة النقد الثقافي بشعر العُجُوز؟ أدعي أن الشاعر في لحظة الكتابة يصاب بقلق الحفاظ على الفكرة، فما أن تبرق في ذهنه حتى يوسل بمقدرته العروضية لتثبيتها، فتأخذ القالب الأول لها، والقلق المزعوم يوهمه أن الفكرة أخذت قالبها التركيبي المناسب، فتبدأ رحلة الاصطراع بين التركيب والفكرة. 

وهنا علينا استدعاء أدوات الشاعر وخبرته، خوادم لغوية تعمل لصالح الفكرة في العجز فقط، حتى يدخل صدر البيت النظام العروضي القائل بالحشو، والكثير من الشعراء يعتقد أن مصطلح الحشو العروضي هو ملء الفراغات النغمية بما يقابلها من رصف لفظي، ولهذا يخسر التركيب رهانه أمام الفكرة، ومن مظاهر ذلك ازدحام النص بالإضافات واختلال الأزمنة وأحرف الجر وحرف التحقيق "قد" وما استهلك من القوالب المعروفة، أما سبب قوة العجوز وامتلائها الشعري فتحدده القافية، أو حرف الروي في الكلمة التي توحي له بالتدليل، لما تحمله من طاقة في المفارقة وأخرى في شاعريتها وعدم سكونها المعنوي، فكسل الشاعر في الصدر وشاعريته في العجز لا يخرج عن أمرين، أما أن يكون الشاعر غير مكتمل الخبرة ولا يتمتع بالموهبة الكاملة أو بسبب العجلة في نشر النص رغبة منه بالانتشار والشهرة، بخاصة وأن محيط النشر صار إلكترونيا، حيث تجد الفلاسفة والأباطرة وملوك الطوائف ومانحي الرتب وصكوك الغفران والثيبات والأبكار وقاصرات الطرف أيضا، وإلى جانب تلك الفئة ستجد جماعة أخرى تجيد العكس تماما، فالشعر لديهم يتمركز في الصدور فقط، وهم يتمتعون برتبة أعلى؛ بسبب انعدام العوامل المساعدة ولكون البدايات أكثر قيمة من النهايات، في النهاية لا يمكن تبرئة الشعر من بعده البراغماتي الصرف، وما فرضية التأثير والتأثر إلا جزء من هذه المهادنة، والتلقي المشبوه الذي يجري عبر التواصل الاجتماعي الذي أنتج ذواتا وشخوصا ورتبا زائفة ليس إلا صورة من صور صناعة الوهم الأدبي، وعزاؤنا بمن دفعتهم مواهبهم الحقيقية إلى الإخلاص للشعر فكانوا خارج معادلة الضوء والمنفعة، وكانوا شعراء حتى بعلامات الترقيم.