طائرات الدرون تغيّر مسار الحرب في أوكرانيا

بانوراما 2025/01/21
...

 دان صباغ

 ترجمة: بهاء سلمان

         يصف "دينيس"، وهو جندي في لواء خيزاك الأوكراني، نوعا جديدا من الحرب؛ فمع وقوفه داخل ورشة عمل تابعة لثكنات متخصصة، محاطا بأكوام من طائرات الدرون الأوكرانية الأساسية ذات الرؤية من منظور الشخص الأول (-first person view تختصر FPV) متكدسة  خلفه، يقول ببساطة: "هناك عدد أقل من المعارك النارية لأن هناك المزيد من معارك طائرات الدرون."                                   

صارت خطوط المواجهة منطقة قتل بعمق عدة أميال، بعدما كانت تفصل بينهما مسافة طلقة نارية واحدة، حيث تستهدف فرق الطائرات بدون طيار الروسية منها والأوكرانية قوات بعضها البعض بهجمات جوية بسيطة، إذ إنها مختبئة على بعد ميل إلى ثلاثة أميال خلف خط المواجهة. يقول دينيس، بمشاعر تقترب من الحنين الى الماضي: "في العام 2022، كنا لا نزال نركض بالرشاشات بين خطوط الأشجار."

ويوضح عضو آخر ضمن اللواء، "ديما"، الذي يحمل علامة النداء (الكيميائي)، مثالا على ذلك من خلال مقطع فيديو على هاتفه. ولأن طائرة بدون طيار من طراز FPV تنفجر عند الاصطدام، ينتهي الفيديو فجأة بوميض من الضوضاء البيضاء، وتكون عواقب الانفجار غير مرئية، كما هو الحال مع العديد من مقاطع الفيديو التي نشرتها كل من الجيوش الأوكرانية والروسية على الإنترنت.


قنّاص طائر

وقد تم رصد جندي روسي على بعد عدة أميال ينظر من خلال طابق علوي عبر إحد المباني. ورغم أن طائرات FPV وفيرة نسبيا، فإن لواء خيزاك، الذي غالبا ما يتألف من ضباط دوريات الشرطة الذين تطوّعوا للقتال، يحاول استخدامها باعتدال وبتوئدة؛ ويظهر الفيلم الطائرة بدون طيار تحوم وتعيد ضبط اتجاهها بينما يحاول قائدها العثور على الزاوية المناسبة للضرب. يقول خيميك: "إنها مثل وظيفة القناص." 

ولا يزال القصف المدفعي أو قذائف الهاون في الحرب الاوكرانية بنفس المستوى، بيد أن طائرة FPV الرباعية المراوح التي يبلغ طولها سبع بوصات (17 سنتمتر)، والقادرة على حمل كيلوغرام من المتفجرات، والتي تعمل بنظارات وجهاز تحكم محمول باليد، أصبحت شائعة الاستخدام في كل مكان. وعلى حد تعبير "صموئيل بينديت"، خبير الطائرات ضمن مركز التحليلات البحرية، فقد "تطوّرت هذه الطائرات من كونها سلاحا جديدا سنة 2022، إلى أحد الأسلحة المفضلة سنة 2023، مرورا بمرحلة التجول عبر الفضاء التكتيكي بأكمله."

ويبدو أن الهجمات الفردية المتأنية لا تمثل التكتيك الوحيد، مع تطوّر الاستخدام، فرغم زيادة الأعداد، غالبا ما يتم شن هجمات بأسراب بسيطة. ويصف دينيس "قصفا مدفعيا بطائرة درون" على موقع روسي بالقرب من بلدة توريتسك على خط المواجهة شرق دونباس، قائلا: "لقد أسقطنا كميات تقدر بكيلوغرام ونصف من المتفجرات كل ثماني دقائق لمدة ثلاث ساعات، وبحلول نهاية العملية سجلنا تراجع العدو."

ويثير صوت طائرة درون صغيرة بالقرب من الجبهة الرعب. يقول "أوليكسي"، جندي مشاة يتدرّب بالقرب من سومي: "من المستحيل التغلّب على طائرة الدرون. ولا خيار امامك سوى اسقاطها."

أوليكسي، الذي كان جزارا بالقرب من منطقة خيرسون جنوب البلاد قبل استدعائه، يتذكّر لحظة كاد فيها أن يقتل بواسطة طائرة درون. "لقد بدأت الطائرة بالانخفاض، قبل أن أشرع بالركض. ثم تعثّرت بغصن شجرة واستمرّت تلك الطائرة بدون طيار بالسير مباشرة، من حيث كنت واقفا."


قدرات رائعة

تتحرّك طائرات بدون طيار FPV الصغيرة بسرعة نحو 37 ميلا للساعة، أي ما يعادل 60 كيلومتر للساعة، وهو مقدار أعلى من السرعة القصوى لـلعداء الجامايكي "يوسان بولت" البالغة نحو 28 ميلا في الساعة. إنها تجبر المركبات المدرّعة على القيادة بسرعة من وإلى خط المواجهة، ونقل القوات أو الضحايا، وتشير الكاميرات الحرارية إلى امكانية عملها بشكل فعال عند حلول الليل. يقول بينديت: "أصبحت القدرة على الضرب مفتوحة، حيث لا يمكن أن يكون أي شيء آمنا وسط ساحة المعركة."

لكن عمر البطارية هو المحدد لوقت الطيران، على الرغم من أن طائرة FPV الانتحارية يمكن لها خلال الطقس الجيّد أن تسافر لمسافة تصل إلى 20 كيلومترا؛ غير إن الأولوية هي توفير المال عن طريق نشر طائرات درون قاذفة عائدة، لذلك فإن مجال قدرتها التشغيلية الفعالة تقع ضمن دائرة نصف قطرها خمسة كيلومترات تقريبا.

طائرة درون FPV هي واحدة من نوعين مهيمنين دخلتا ساحة المعركة؛ أما الأنواع الأخرى فهي طائرات رباعية المراوح Mavic التجارية التي تصنعها شركة DJI الصينية. إلا أن طائرات FPV تعد أبسط ومصدر تصميمها هو أوكرانيا أو روسيا، على الرغم من أن العديد من المكوّنات تأتي من الصين، التي ينظر إليها من الناحية النظرية بوصفها دولة متحالفة مع العدو، بحسب دينيس. ويعترف الجندي قائلا: "شركة أوكرانية وعناصر صينية"، على الرغم من الجهود المبذولة للحصول على الأجزاء المكوّنة من أماكن أخرى.

يصف الأوكرانيون جهودهم في مجال الطائرات بدون طيار بأنها مبادرة من المجتمع المدني، تم تنظيمها وتمويلها في البداية خارج الدولة، حيث يدفع الجنود وأصدقاؤهم وعائلاتهم ثمن الطائرات من خلال جمع التبرعات. وليس من غير المألوف أن يقوم الأوكرانيون الذين يعيشون على بعد أميال من الجبهة بتجميع الطائرات بدون طيار في غرف المعيشة والمرائب. يتم تسليمها إلى ورش الألوية، مثل ثكنات لواء خيزاك بالقرب من ليمان، حيث يتم إجراء التعديلات النهائية.


دعم حكومي

ومع ذلك، فقد تغيّر التوازن، حيث عملت وزارة الدفاع الأوكرانية على تكثيف الإمدادات، وذكرت أنها سلمت مليون ومئة الف طائرة FPV أحادية الاتجاه حتى منتصف كانون الاول الماضي، بالإضافة إلى مئة ألف طائرة أكثر تطورا. وفي الوقت نفسه، زودت روسيا "من مليون و200 ألف إلى مليون و400 ألف طائرة"، وفقا لبيندت، لذا فهناك "نوع من التكافؤ فيما يتعلق بالأعداد" حتى مع الأخذ بالاعتبار حجم روسيا الأضخم. ومن الناحية التقنية، لا يوجد فرق كبير بين الجانبين، حيث يقوم كل منهما بنسخ نماذج طائرات الدرون بشكل سريع من الآخر.

يتطلب الأمر تعلّم الطيران. ويعلق خيميك بأن "الأمر يستغرق 70 ساعة مع جهاز المحاكاة و70 ساعة مع طائرة درون." تشهد كييف وأماكن أخرى عقد الدورات لهذا الغرض، على الرغم من أن أحد البريطانيين المقيمين في كييف يصف الجهد المبذول للتعلم بأنه صعب. وحتى بعد أسبوع من التدريب، يظل من الصعب متابعة مركبة حول مسار ترابي، على حد قوله، رغم أن الآلاف من الجنود الأوكرانيين ليس لديهم خيار سوى إتقان التحكم وسط حرب تشكل الطائرات الصغيرة بدون طيار معظم القوة الجوية للبلاد المغطية للخطوط الأمامية لجبهات القتال.

يعد "سيرجي ستيرنينكو"، الناشط الأوكراني، أحد أشهر المدوّنين في  البلاد، حيث يبلغ عدد المشتركين عبر قناته على اليوتيوب مليوني مشترك. حاليا، يوجه الكثير من جهوده نحو جمع التبرعات لتوريد طائرات بدون طيار FPV للقوات الأوكرانية. "لقد ساعدت على شراء 120 ألف طائرة بدون طيار FPV حتى اليوم، و100 ألف خلال العام الماضي،" علاوة على تطوير أنواع جديدة من الطائرات بدون طيار. "كنت أكره مادة الفيزياء في المدرسة، والآن أتعلّم الهندسة وأنا سعيد بممارستها،" يقول ستيرنينكو، الذي تدرب كمحام.


نشاط الأفراد الإيجابي

ويقول المدوّن إن التقدم الذي يشهده تطوير طائرات FPV لم يكن ليحدث لولا جهود مثل جهوده. "يجري استخدام طائراتنا بدون طيار على كل الاتجاهات، كما أن عملية توريدها أقل تعقيدا بكثير،" مضيفا أنه يستطيع المساعدة بتوصيل الطائرات بدون طيار إلى أي وحدة في غضون 24 إلى 48 ساعة. وباعتباره منتقدا صريحا للاخفاقات العسكرية، وضع ستيرنينكو لفترة وجيزة على قائمة المطلوبين خلال تشرين الثاني الماضي لتجاهله اعلان الاستدعاء للتجنيد، على الرغم من حل المشكلة بعد أن إلتقى القائد العسكري الأعلى، "أوليكساندر سيرسكي"، خلال الشهر نفسه.

من الجيّد أن يظل جهد الطائرات بدون طيار محوريا ضمن جهود الحرب الأوكرانية، حتى لو كانت "القيادات العسكرية العليا لأوكرانيا لا تتقبل النقد الموضوعي بشكل جيّد في بعض الأحيان،" كما يلاحظ ستيرنينكو. ويشارك هذا الناشط المخلص بشكل وثيق بالجهود الرامية إلى استخدام طائرات بدون طيار FPV كشكل رخيص للدفاع الجوي لاسقاط طائرات هجومية روسية أكثر تطوّرا.

وكان قادة طائرات FPV الأوكرانيون قد تمكنوا من إسقاط طائرات بدون طيار روسية من طراز "اورلان" و"لانسيت" على ارتفاعات أعلى لعدة أشهر، مما أدى إلى تقليص قدرة العدو الروسي على الاستطلاع بعيد المدى، كما تظهر العديد من مقاطع الفيديو التي نشرها ستيرنينكو. "إن الدفاع الجوي مكلف للغاية، فقد يكلّف من 100 ألف دولار إلى مليون دولار لضربة واحدة، ولكن الطائرة بدون طيار قد لا تكلف سوى بضع مئات من الدولارات،" كما يقول ستيرنينكو.


اهتمام حقيقي

على نحو متزايد، يتصاعد التركيز على تطوير طائرات بدون طيار FPV لديها قدرة إسقاط المروحيات الروسية بشكل موثوق، وقد تم الإعلان عن ضربتين خلال الصيف الماضي، وطائرات بدون طيار كبيرة الحجم من طراز Shaheed، والتي تتطلب طائرة بدون طيار يمكنها الطيران بسرعة تزيد عن مئة ميل لكل ساعة على ارتفاع يزيد عن عشرة آلاف قدم. ويلاحظ ستيرنينكو أن التحدي الخاص يكمن في إمكانية تصدي طائرة بدون طيار صغيرة مع الاضطرابات التي تنتجها طائرة Shaheed روسية الصنع أثناء طيرانها عبر البلاد، ويخرج هاتفه ليظهر كيف كافحت طائرة بدون طيار FPV للوصول إلى هدفها.

وهناك حديث عن الاستخدام الأفضل للذكاء الاصطناعي داخل القيادة والاستهداف مع انطلاقة هذا العام، وعن تطوير طائرات بدون طيار برية أو "غير طائرة". ولكن من المرجح أن يهيمن حجم الإنتاج وكذلك التحسينات التدريجية بالنسبة للمدى والتصميم إذا استمرت الحرب. إن التشويش، على الرغم من أنه يشكل تهديدا دائما، يتطلّب الكثير من الطاقة ويصعب الحفاظ عليه، لأن الحرب الإلكترونية تستلزم إرسال إشارات أقوى وأكثر إزعاجا. 

ومع اقتراب الرئيس دونالد ترامب من البيت الأبيض، وسط مخاوف من أنه قد يوقف هدايا الأسلحة الأميركية لأوكرانيا، فمن المرجح أن تصبح التقنية المحلية أكثر أهمية بالنسبة لكييف. يقول ستيرنينكو: "تقاتل أوكرانيا ضد دولة ضخمة يبلغ عدد سكانها عدة مرات أكثر من أوكرانيا. ولهذا السبب نطالب بمزيد من الأسلحة والمزيد من التكنولوجيا، لأنه لا يمكنك القتال بالناس فقط. تثبت الطائرات بدون طيار أننا يمكن أن نكون أكثر كفاءة".

صحيفة الغارديان البريطانية