قراءة لإشكالية العلاقة الملتبسة بين إيران وأميركا
آراء
2019/07/03
+A
-A
جواد علي كسار
يُخطئ من يظنّ عدم وجود تواصل بين الإيرانيين والأمريكان، لا فرق في أن يكون هذا التواصل رسمياً أو غير رسميّ، وعلى نحوٍ مباشر أو غير مُباشر، في إيران وأمريكا، أو في الإقليم وبقية أنحاء العالم.
وهذا هو حال العلاقة بين الطرفين من أربعين عاماً، منذ أن بادرت أمريكا (وليس إيران) إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران، بعد واقعة احتلال السفارة الأمريكية بطهران يوم الأربعاء الرابع من تشرين الثاني عام 1979م.
فبعد ذلك مباشَرة كان اللقاء الجزائري بين زبغنيو بريجينسكي (ت: 2017م) مستشار الأمن القومي الأمريكي ومهدي بازركان (ت: 1994م) رئيس الوزراء المؤقت، لمعالجة أزمة الرهائن، وتطوّر الأمر إلى وجود وفد إيراني مختص برئاسة بهزاد نبوي (سياسي ووزير سابق، ولد: 1942م) وبوساطة الجزائر، انتهى إلى توقيع اتفاقية استرجاع إيران لمبلغ سبعة مليارات وتسعمئة وسبعة وسبعين مليون دولار (حوالي ثمانية مليارات) في مقابل إطلاق سراح الرهائن الاثنين والخمسين، وهو ما تمّ فعلاً يوم الثلاثاء 20 كانون الثاني 1981م، بعد (444) يوماً من الاحتجاز.
من حلقات هذه العلاقة ما تمّ عام 1986م إبّان الحرب العراقية ـ الإيرانية، حين تواصلت إدارة ريغان مع الإيرانيين، إلى المستوى الذي زار فيها إيران وفد أمريكي بقيادة مستشار الأمن القومي روبرت ماكفرلين (معاصر، ولد: 1937م) وأمضى ثلاثة أيام في طهران، مصطحباً معه هدية رمزية، وطائرة محمّلة بالسلاح، وقد كان يمكن لهذه العلاقة لو استمرّت أن تغيّر وجهة الحرب ومصيرها، لولا ما حصل من تسريب خبرها من قبل محسوبين على بيت الشيخ علي حسين منتظري (ت: 2010م)، وعبر مجلة «الشراع» اللبنانية.
على عهد بوش الأب (1989ـ 1993م) تحسّنت مطلع التسعينيات من القرن المنصرم، العلاقة المتبادلة بين الطرفين، خاصة في مجال النفط والتجارة، وذلك وفقاً لمبدأ بوش الأب في التعامل مع طهران على قاعدة: «حُسنُ النيةِ يستتبعُ حُسنَ النية»، وهو المبدأ الذي تجاوبت معه إيران التي كانت تحكمها يومذاك السياسة العملية الواقعية (البرجماتية) للرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني، (ت: 2017م) وكانت طهران سخيّة في بذل مساعيها الحميدة لإطلاق عدد كبير من الرهائن الأمريكان في لبنان.
عندما كان محمد خاتمي في الرئاسة (1997ـ 2005م)، جرت تفاهمات بين الأمريكيين والإيرانيين، وصلت حدّ التنسيق الحثيث بينهما على ساحات عديدة، منها البوسنة، ثمّ أفغانستان والعراق، وقضايا مختلفة مثل حوار الحضارات ومواجهة الإرهاب عبر الأمم المتحدة، حتى بلغ الأمر إلى اعتذار مادلين أولبرايت (معاصرة، ولدت: 1937م) وزيرة خارجية أمريكا على عهد كلينتون، عن أخطاء لابست سياسة أمريكا في إيران تأريخياً، وهو ما كانت تُطالب به إيران.
وعلى عهد خاتمي وبوش الابن، بدت إيران وكأنها على خطّ واحد مع ستراتيجية بوش في مواجهة الإرهاب، ثمّ استمرّ التواصل أواخر عهد الرئيس احمدي نجاد (2005ـ 2013م) وحول الملف النووي بوساطة عمانية، انتهت إلى الدبلوماسية الهاتفية، عبر الاتصال الهاتفي الشهير للرئيس باراك اوباما مع الرئيس حسن روحاني، وما انتهى إليه من توقيع الاتفاق النووي سنة 2015م، قبل أن ينسحب منه الرئيس دونالد ترامب، ثمّ يعود يستحثّ الخطى نحو مفاوضات مباشرة بين الطرفين.
سؤال الملف
الملاحظ أن هذه العلاقة على التباسها وتعرجاتها في منحنيات بيانية، تصعد بها أحياناً إلى أعلى مديات التوتر، وتهبط بها أحياناً أُخر إلى حدّ الاستقرار والتنسيق المتبادل، استطاعت في يومٍ من الأيام، أن تُجمّد لأسبوعين متتاليين، شعار «الموت لأمريكا» الذي كان ينطلق ولا يزال من جموع المشاركين بصلاة الجمعة وسط العاصمة طهران، لكن السؤال الملح: لماذا ينجح الأمريكان والإيرانيون في قضايا الآخرين وساحاتهم، ويفشلوا حين يكون الموضوع هو العلاقة بينهما؟
ولماذا تنتكس العلاقة بينهما وتنحدر انحداراً قاسياً شديداً، بعد كلّ تقارب بينهما؟
هذا الملف الذي نقدّمه على مدار حلقتين أو ثلاث، هو قراءة من الداخل الإيراني في إشكاليات العلاقة الملتبسة بين إيران وأمريكا.
قراءتان
على نحوٍ من التبسيط الذي أرجو أن لا يكون مخلاً، يمكن الحديث عن قراءتين من داخل إيران للعلاقة مع أمريكا؛ توصف الأولى أنها القراءة الأيديولوجية، في حين نستطيع أن نطلق على الثانية، القراءة الواقعية السياسية.
بديهي هناك فرق بين القراءة الأيديولوجية والسياسية، وإن كانت الأيديولوجية ترمي بظلالها على السياسية، لكن تبقى القراءة السياسية أرحب، وأقرب إلى الواقع وإلى مدركات الفهم المتداول بين الناس.
من البديهي أن يكون السيد الخميني (ت: 1989م) من موقعه العميق وشأنه المتميّز، هو صاحب القراءة الأيديولوجية الأولى والمدوّنة الأبرز، حيث تُهيمن أُمهات أفكاره ورؤاه على العلاقة مع أمريكا، يليه أيديولوجياً السيد علي خامنئي بصفته امتداداً منهجياً، والأكثر من ذلك وظيفياً لمدرسة الخميني ورمزيته. على الجانب الآخر برز اسم هاشمي رفسنجاني (ت: 2017م) بصفته أبرز سياسي إيراني قدّم قراءة لإشكالية العلاقة بين إيران وأمريكا، من منظور المدرسة الواقعية العملية (النفعية البرغماتية) لاسيّما وأنّ قراءة رفسنجاني جاءت جامعة متعدّدة الأبعاد، تتضمن تراكماً زمنياً، مشفوعة غالباً بالأفكار العملية والمقترحات التي تتجه إلى واقع العلاقة مباشرةً، ومعالجة الأزمات العالقة بين الطرفين.
لقد رأيتُ من خلال متابعة استقصائية راصدة، أن أفكار هاشمي رفسنجاني ومقارباته لهذه العلاقة، تضع بين أيدينا ملفاً ضخماً، يستحقّ المتابعة بالبحث والتحليل، بوصفه مدوّنة من أهمّ مدوّنات العلاقة الملتبسة بين إيران وأمريكا.
ملاحظة
ثمّ ها هنا ملاحظة أساسية على موقفي الخميني وخامنئي، إذ لاحظنا خلال العقود الأربعة التي مضت، افساحهما المجال عملياً للدولة أو الحكومة على وجه أدق، لإدارة العلاقة مع أمريكا على معايير الواقعية السياسية وبمنطقها حيثما سنحت الفرصة لذلك، بل حمايتهما للأداء الحكومي في هذا الجانب، مع بقائهما في الخندق الأيديولوجي، والتزامهما بمدوّنته، كما حصل مرّة عندما غطّى السيد الخميني على مبادرة خاصة لهاشمي رفسنجاني، فتح من خلالها عام 1986م فجوة كبيرة في جدار القطيعة بين البلدين، عبر زيارة ماكفرلين الشهيرة، وحصول إيران نتيجة ذلك، على معدّات دقيقة لراداراتها وطيرانها، وأسلحة مضادّة للدبابات، بحيث عندما أراد اليسار المتطرّف في مجلس الشورى الإيراني، أن يحوّل المسألة إلى قضية رأي عام، عبر استيضاح وزير الخارجية علي أكبر ولايتي، بل رئيس الوزراء نفسه أمير حسين موسوي، رأينا تدخّل الخميني مباشرة، حيث وأد تلك الأصوات وقطعها من الجذور، وأرخى بظلال حمايته للعملية كلها، من خلال دعمه لمبادرة رفسنجاني ودفاعه عن موقف الحكومة برئاسة موسوي، بل الأكثر من ذلك طلب من رفسنجاني، أن يكشف عن المبادرة علناً بوصفها منجزاً لإيران، كما فعل ذلك رفسنجاني عملياً، من خلال خطبة شهيرة له في صلاة الجمعة.
عاد الموقف نفسه لكي يتكرّر بحذافيره تقريباً، مع حكومة حسن روحاني وإن تبدّل الموضوع، حينما غطّى السيد خامنئي على مبادرة الحكومة في التعامل المباشر مع أمريكا، ودافع إجمالاً عن موقفها في إبرام الاتفاق النووي، وسط نقد شديد اكتسح الساحة الإيرانية داخلياً، من قوى التطرّف اليميني، وجماعة صحيفة «كيهان» وبقايا أتباع الرئيس السابق احمدي نجاد.
التفسير الوظيفي
على ضوء هذه الملاحظة لا يمكن الحديث عن قسمة جامعة مانعة بالمعنى المنطقي بين القراءتين، كما لا يمكن الركون إلى نظرية المؤامرة، بالذهاب إلى فرضية التواطؤ، إنما يبرز التفسير المنطقي لهذا الازدواج الذي نلحظه بين الأيديولوجي والسياسي الواقعي، على أساسٍ وظيفيّ
بحت.
فوظيفة الخميني كزعيم للثورة تملي عليه أن يكون على رأس الاتجاه الأيديولوجي، لكن لديه في موازاة ذلك أو بمحاذاته وظيفة أخرى، هي حماية الدولة، ما يفسح له المجال بترك الحرية لقادة البلد ومسؤولي الحكومة، أن يتصرّفوا مع أمريكا على أساس الواقعية السياسية، ووفق منطقها المنفعي ولغتها المصلحية ولما يخدم مصالح إيران كدولة، من دون الإحساس بأيّ حرج بين الدورين، ما دام كلّ واحد منهما ينهض بأداء وظيفته.
هكذا الحال بالنسبة لخامنئي في مسألة الملف النووي وغيرها من الملفات السابقة واللاحقة، حيث سيتكرّر التعامل المباشر وغير المباشر مع أمريكا، انطلاقاً من ثنائية الأيديولوجي ـ السياسي، وبالاحتكام إلى المعيار الوظيفي، حيث سيكون التعامل مع أمريكا وإدارة العلاقة معها، ليس عملاً مباحاً وحسب بل ضرورياً، من دون تناقض بين الرؤيتين، ما دام المحدّد الوظيفي هو الميزان بينهما.
فحينما يتحدّث السيد خامنئي بصفته قائداً ومؤتمناً على تراث السيد الخميني، يتمسّك بناصية الأيديولوجيا، لكن عندما يتحدّث من واقع إدارته للبلد، فهو يسمح للتعامل السياسي، في كلّ مرّة يُقدّر أن ذلك ضرورياً لمصلحة إيران، استناداً في الحالين إلى الجانب الوظيفي، الذي يختلف بين الأيديولوجي والسياسي، من دون أي إحساس بالتعارض، فضلاً عن الحرج الأخلاقي الناشئ عن تهمة الازدواجية وما شابه، لأن واجبات المسؤول في الأيديولوجيا، هي غير واجباته في إدارة الدولة وتدبير شؤون البلاد والعباد!
مدرسة رفسنجاني
أجدّد الإشارة إلى أن هاشمي رفسنجاني، هو أبرز دعاة غلق ملف العلاقة الملتبسة مع أمريكا، تبعاً لمدرسته في الواقعية السياسية، وربما نجد في تراثه ما يساوي مجلداً ضخماً من مئات النصوص عن هذه العلاقة، بين ما ذكره في خطب الجمعة واللقاءات الإعلامية في الداخل والخارج، فضلاً عما جاء في يومياته بخطّ يده.
ببساطةٍ ووضوح يمكن أن نقدّم تلخيصاً مكثفاً لأبرز أفكار هاشمي ومقترحاته، من خلال النقاط التالية:
1ـ يدعو إلى التعامل المباشر مع أمريكا، من دون حاجة إلى وسطاء.
2ـ بيدَ أن التعامل المباشر لا يعني تلقائياً، العلاقات الدبلوماسية.
3ـ تترقب إيران من أمريكا حُسن النية، بالعمل لا بالقول.
4ـ أبرز مصداق لحُسن النية، هو إفراج أمريكا عن أموال إيران وودائعها المحتجزة في أمريكا.
5ـ من الممكن جداً أن تنتهي حصيلة هذه الخطوات، إلى استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
لقد استطاعت هذه النظرية ببساطتها الآسرة وبُعدها (ظاهرياً) عن التعقيد، أن تكتسح الساحة حيث ضيّقت الخناق على الأيديولوجيين وخطابهم وأنصارهم، ودفعتهم إلى زوايا دفاعية حرجة في كثير من الأحيان، لفرط وضوحها وسهولتها وواقعيتها، بحيث راح الآخرون في السلطة وخارجها، يردّدون صيغها اللفظية، ويستعملون الأدوات التعبيرية نفسها، التي يستعملها رفسنجاني.
في كثير من الأحيان كانت غالبية الاتجاهات السياسية تقف عملياً تحت مظلة مبادرة هاشمي رفسنجاني، حتى وهي تتموضع داخل أجنحة متعارضة ومتنافسة، وترفع شعارات «الموت لأمريكا».
فمن حيث عمل وزارة الخارجية انتمت لهذا الاتجاه، مدرسة الوزير المخضرم علي أكبر ولايتي، الذي تربّع على وزارة الخارجية لمدّة ستة عشر عاماً (1982ـ 1997م) وامتدادها بكمال خرازي على عهد الرئيس محمد خاتمي (1997ـ 2005م) ثمّ اكتمالها اليوم بالوزير محمد جواد ظريف الذي تسلم أزمّة قيادة الدبلوماسية الإيرانية منذ سنة 2013م، مع الرئيس حسن روحاني، حتى الآن.
رؤساء الجمهورية بعد هاشمي رفسنجاني كانوا جميعاً من أنصار مشروع رفسنجاني؛ محمد خاتمي بدورتيه (1997ـ 2005م)، واحمدي نجاد بدورتيه (2005ـ 3013م) وحسن روحاني بدورتيه الأولى (2013ـ 2017م) والثانية التي لا زال يمارس مسؤوليته فيها، مع ملاحظة صغيرة ترتبط بالرئيس نجاد، الذي لم يكن على خلاف منهجي مع رفسنجاني في العلاقة مع أمريكا، قدر ما كان يريد لها أن تتمّ من خلاله، وعبر أسلوبه الخاص الذي يتّسم بشيء غير قليل من الضجيج والإثارة، بطريقة تُذكرنا بالرئيس الأمريكي الحالي ترامب!
بشأن الاتجاهات والأجنحة السياسية، اصطفّ اليمين مؤيداً مبادرة رفسنجاني في تسكين التعامل مع أمريكا وتهدئته، تمهيداً لعلاقات دبلوماسية مرتقبة، عارضها اليسار حين كان خارج السلطة، ثمّ أيدها عندما وصل الى السلطة إلى جوار خاتمي، واستمرّ بالتأييد في أغلب سنوات حكم نجاد حين عُزل عن السلطة، معه اليمين المعتدل، قبل أن يتحوّل التأييد إلى قاعدة لموقف الجميع يساراً ويميناً على عهد روحاني، خاصة بعد دبلوماسية الاتصال الهاتفي، وتوقيع الاتفاق النووي، بينما بقيت في خندق المعارضة أقلية اليمين المتطرّف، من أنصار حزب الله وصحيفة «كيهان» وبقايا احمدي نجاد، وشطر ضئيل من الأصوليين المبدئيين، على اختلاف الدوافع بين فريق وآخر.
كمعلومة خاصة، قد نستغرب إذا عرفنا أن أحد أبرز نقّاد مشروع رفسنجاني، هو الوزير الحالي محمد جواد ظريف، بالتأكيد من دون أن يعني ذلك موقفاً معارضاً من العقلانية السياسية لهاشمي رفسنجاني، بقدر ما يعني نقد روح المبادرة القائم على مبدأ حُسن النية، وأن هذا المبدأ قد يحقق الفوز لإيران، في هذه الساحة أو تلك، ويمنحها الجوائز والمكاسب في هذه الجولة أو تلك، لكنه لا يحقق لها الربح الأخير، لأنه ببساطة يتعامل مع العلاقة مقطعياً، بعيداً عن الإطار المعرفي، الذي قد يسير على نحوٍ بطيء، فقد يتلكأ أحياناً، لكنه الإطار الستراتيجي الوحيد الذي يُعطي الفاعلية لمبادرات حُسن النية، ومواقف التوافق أو التعاون بين الطرفين، ويؤسّس لعلاقة قارّة بين البلدين، على حدّ تصوّرات ظريف.
تصوّرات ظريف
نركز الآن على تصوّرات ظريف لإشكالية العلاقة بين أمريكا وإيران، وسُبل الخروج من هذه الإشكالية، انطلاقاً من موقع ظريف الحالي على رأس وزارة الجارجية الإيرانية، والأهمّ من ذلك أنه تعبير حيوي متجدّد لمدرسة الشيخ رفسنجاني، استطاع أن يجدّد في أفكار الشيخ ومدوّنته، لما يؤدّي ليس إلى نقض مدرسته في الواقعية السياسية، بل استكمالها ببناءات جديدة متطوّرة، على صعيد الخبرة والمفاهيم النظرية معاً.
في طليعة ما نقرأه في مدوّنة ظريف عن أمريكا، هو تحفظه على مواجهة أمريكا بالكلام، والتصعيد على أساس الاندفاع الثوري بالشعارات وحدها، إذ لا قيمة لهذه الإجراءات الكلامية التصعيدية غير المنضبطة، من دون إدارة عقلانية للمشهد من جميع أبعاده، بل ربما عاد التصعيد الكلامي الجانح بتبعات سلبية وأضرار على إيران.
على سبيل المثال يستعيد ظريف، في الحوار المطوّل الذي أجراه معه محمد مهدي راجي، وصدر في كتاب «آقاى سفير» (السيد السفير) يستعيد بعض الوقائع كأمثلة للتصعيد الكلامي، والمواجهة بالبلاغة اللفظية، كتلك التي حصلت لإيران في لجنة حقوق الإنسان أوّل ثمانينيات القرن المنصرم، وكيف أفضت تلك الوسائل التصعيدية إلى أن يصدر قرار ضدّ إيران، ومردّ ذلك كله إلى أنه: «لم تكن لنا تجربة، ولم نتصرّف بعقلانية... أجل، كان هدفنا مقدّسا، ولكن لكلّ عمل أسلوبه الخاص، وقد أخطأنا» (المصدر، ص 40ـ 41).
يضيف ظريف: «لا أنسى، أننا كنا في يوم من الأيام، إذا خطب مندوب أمريكا، وقال كلمة تمسّ إيران، كنا نفكّر أن نوجّه بردنا عليه، ضربة قاصمة للاستكبار».
ثمّ يعطينا أمثلة على تلك الردود البليغة والتعريض بأمريكا وتأريخها المزدوج، وإطلاق المبادرات الشكلية، من قبيل رفض عطلة يوم الشكر في الأمم المتحدة، وغير ذلك مما لم يكن له تأثير يُذكر (المصدر، ص 41ـ 43).
ينتقد ظريف النزعات اليسارية المتطرّفة، التي هيمنت على السياسة الخارجية في العقد الأول، بعد انتصار الثورة الإسلامية في شباط 1979م، ويعزو النزعة تلك التي صاغت ذلك الخطاب الشعاري المتطرّف، إلى الجهل بالسياسة الخارجية، وشيوع أفكار وتصوّرات غير تخصّصية بعيدة عن المهنية، وإلا: «بإمكانك أن تكون ضدّ الإمبريالية، وأن تكون عقلانياً أيضاً».
عند هذه النقطة يُلفت ظريف إلى مسألة غاية في الأهمية، مفادها أن النزعة إلى الحرب أو «الحربوية» تُقوّي نظام السلطة الاستكبارية، وما دمتَ لا تستطيع مواجهة أمريكا عسكرياً، فلماذا تبدو وكأنك تسعى لذلك؟
يعبّر ظريف عن مجموع هذه المعطيات والرؤى، بقوله: «في الواقع إن مواجهة الإمبريالية لها منهجها الخاص، فأسلوب مواجهة نظام السلطة، لا يكون من خلال تقوية مرتكزات ذلك النظام، من خلال عملك وتصرّفك.
إذا أردت مواجهة نظام السلطة، فعليك خلخلة مرتكزات السلطة وضرب أركانها».
يضيف نصاً: «من المحتم أنك لا تتوقع مواجهة أمريكا عسكرياً، فلماذا تسير بهذا الطريق؟
عندما تسير بهذا الاتجاه، فأنت في الحقيقة تُقوّي مرتكزات نظام السلطة».
هل يعني ذلك الاستسلام لأمريكا؟
كلا، حيث يوضّح ظريف: «إن ما يمنحك القدرة على مواجهة نظام السلطة، ليس قدرتك العسكرية، بل تلزمك عناصر أخرى، فمواجهة نظام السلطة والإمبريالية يحتاج إلى العقلانية، وإلى المنطق والمعرفة، وليس إلى النزعة الحربوية» (المصدر، ص 137). إن الكثير من سياسات الجمهورية الإسلامية لها طابع قيمي بنظر ظريف، وهي مطلوبة ليس بواقع ما تُحقّق من منافع مادّية فقط، بل من أجل الدفاع عن القيم.
بيد أن هذا لا يعني مطلقاً إهمال عنصر التدبير، فالتدبير يجعلك تنفق كلفة أقلّ في سبيل الدفاع عن تلك القيم.
بتعبير ظريف: «تقوم السياسة الخارجية في الحقيقة على أساس السير الحثيث باتجاه المصالح الوطنية. أما الدبلوماسية فهي تحرص على أن تُحقّق هذه المصالح بأقلّ كلفة ممكنة» (المصدر، ص 141ـ 142) وقضية أمريكا لا تشذّ عن هذه القاعدة، حيث يرسم لنا ظريف خريطة طريق من عدّة نقاط، هي موضوع الحلقة المقبلة من هذا الملف.