رنا صباح
تعد الرواية الألمانية "الأزرق.. الأزرق" لآنا زيغرز، المترجمة للعربية على يد الدكتور سامي حسين الأحمدي، واحدة من الروايات التي تلامس في طياتها عمق بنية الإرث المكسيكي بعاداته وأسلوب حياته ومتبنيات أفكاره، وهي تصف واقع الإنسان المكسيكي البسيط وأصالته التي تمتد جذورها عميقا. رواية تخاطب الإنسان فتتحول الذات عن طريقها إلى كيان متحلل يستمد قوته من الصمود والبحث الدؤوب عن الصبغة الزرقاء النقية بعدّها إكسيرا لثقافة شعب، ومادة أولية لفنونهم المتوارثة عن طريق الخزاف بينيتو الذي تنقل وغامر وعانى الكثير في سبيل الحصول عليها، مضمنا عمله هذا فكرة مفادها أن الثمين والأصيل يمكن له أن يخرج من بين الخرائب، بعد أن ينهي بينيتو رحلته تلك التي وصفها الكثيرون بأوديسة المكسيك، وهو يبحث في أنقاض المناجم ليجد ضالته.
تشهد الرواية طرحا خارجيا مكشوفا في سرده المباشر، تمثل في البحث عن الصبغة الزرقاء، ويتفق هذا السرد مع عدم التوقف كثيرا عند الشخصيات، بل إنه يقدم لنا الكثير من التفاصيل عن كل شخصية، مثل شخصية (لويزا أو ليونا أو العمة أوزبيا) في الرواية، لكنه لا يدعنا نراها من الداخل بشكل جلي، أما ما نراه من الشخصيات الأخرى فيمثل ما تنقله لنا هذه الشخصية أو تلك عن الشخصية الأخرى، بينما اهتم السرد الداخلي والنفسي في الرواية بقضية الغور بأعماق نفس بينيتو الذي راح يتحول تدريجيا من فتى غرّ غضّ جاهل، إلى رجل واع صلب متبصر، خاصة بعد أن تحسس ذلك الجوع المفرط والفقر المدقع في القرى التي تنقل فيها، ومنها عائلة البارتيث المتمثلة برجل مسن وامرأة عجوز، كان ابنهما روبن يملك سر الصبغة، وجاء بينيتو للبحث عنه وتحسس بالنتيجة طريقة عيشهم المزرية في كوخ بائس، بعد أن خلق منه الكاتب شخصية اجتماعية مهمومة بناسها وبفنها، بوصفه خزافا بارعا لا يقنعه أي لون وأية درجة، سوى الدرجة اللونية التي يرومها، وبذلك فإن هذه الرواية تقع ضمن الأدب الواقعي الذي حدد (برتولد بريخت) مهمته بقوله: إنه يكشف السبب الغامض للعلاقات الاجتماعية، ويفضح الأفكار السائدة، معتبرا إياها أفكارا خاصة بالطبقة الحاكمة، خاصة أن الرواية كتبت بعد الحرب العالمية الثانية، وتحدثت عن حكم هتلر للألمان وسيطرته على شركات الأصباغ التي قطعت صلتها بموردي المكسيك لمنتجاتهم، الأمر الذي دفع بينيتو المولع بفن صناعة الصحون والأواني بيديه وتلوينها وفقا للذائقة الجمعية في قريته، إلى أن يبحث بنفسه عن المصدر الرئيسي لهذه الصبغة.
لعل الكاتب وفق في إعطاء أكثر من دلالة واحدة للبحث عن الصبغة الزرقاء، بعد أن أخرج موضوع البحث من المباشرة، عن طريق تكثيف اللغة والابتعاد نحو العوالم الحياتية للناس البسطاء وثيمة محاربتهم في قوت يومهم، ونتائجه المؤثرة في الناس، لتأخذ الرواية حيزا كان كافيا لإقناعنا بضرورة احتفاظ بينيتو بفنه وأصالته، وإن شعرنا في بداية الرواية وكأن البحث اتسم باللاجدوى، مع دوران عجلة الحياة الهائلة باستمراريتها، وعدا ذلك الحُلم الذي يعكس استبطانات البطل الداخلية، ويؤكد قدرات الكاتب على التوظيف والترميز لحالات إنسانية عديدة، فإن عالم الرواية ظل محاصراً في حدود ضيقة لا تتجاوز الموضوعة المذكورة أولاً، ولم تتعمق في تأكيد الجذر التاريخي أو المعرفي للشخوص وقراهم ثانيا.
لقد تشكل بينيتو بوصفه مركز السرد، أو بؤرة مركزية للتداول والتساؤل والتقصي، وهنا نعثر على إحدى مميزات المطاولة في الحفاظ على القناعات، من حيث قدرة بينيتو، ببحثه عن الصبغة، على اختلاق وعي للحياة، ومقاومة الفناء والتلاشي والذوبان، عبر خلق أنساق مادية، وفكرية وحضارية في الإرث المكسيكي المهتم بالألوان، وسعي مادي كان يراه ضرورياً للبقاء والحـــياة، ولكنّ ثمّة أيضا سعيا فكريا، فبينيتو وُصف في الرواية بأن لديه ذكاء وقوة ملاحظة رغم أنه لا يفقه سوى قراءة بعض الحروف، خاصة عندما تابع عمال المنجم ورميهم للنفايات كي يبرق لديه ذلك الضوء الذي هداه لصبغته، ولعل هذا التكـــوين الحاذق للشخصية نتـــج بفعل الإحساس بأنه مشتت لا يملك شــــيئا، سوى الحصول على فنه، وأن ينهض بذاته، وبالمجموع، وهو لا يمتـــلك سوى البحث، كي تعود الأمور إلى نصابها، وكأن تمسكه بفنه جاء تحديا لأفول الأشياء التي يفخر بها، ولذلك يقول: "لدي عمل أعتز به، أنا خزاف وسأظل خزافا".