فوضى التصريحات الإعلاميَّة تضلل الرأي العام

ريبورتاج 2025/02/09
...

   ‎بغداد : ودق الجميلي


في زمن باتت فيه المعلومات تنتقل بسرعة عبر مختلف وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي، أصبح من الصعب التفريق بين الحقيقة والتضليل. وتتزايد بشكل ملحوظ الأخبار الكاذبة والمعلومات المغلوطة التي تتداول دون تمحيص أو تدقيق، ما يخلق حالة من التشويش في وعي الجمهور. هذا الانتشار الواسع للمحتوى غير الموثوق يثير العديد من التساؤلات حول دور الإعلام في الحفاظ على نزاهة المعلومات وحماية الرأي العام من الانزلاق وراء الأكاذيب.

في ظل غياب الرقابة الصارمة على ما يُنشر، تتعاظم المخاطر المترتبة على تأثير هذه الأخبار الزائفة في المجتمع، خاصة في فترات مهمة كفترة الانتخابات أو عند تناول القضايا الوطنية الحساسة.

المتابع للشأن السياسي، عقيل حيدر، يؤكد أن ظاهرة نشر الأكاذيب وتضليل الرأي العام تُعد من الظواهر الخطيرة التي تترتب عليها عواقب وخيمة، منها نشر الفوضى وتشويه سمعة الأفراد والمؤسسات دون وجود أدلة ملموسة.

وأكد في حديثه لـ"الصباح" أن الدوافع وراء هذه الظاهرة غالباً ما تكون مرتبطة بالتبعية أو الرغبة في كسب الشهرة الإعلامية من خلال الجدل غير الموضوعي، ما يفقد العمل الإعلامي مصداقيته ويضعف قيم الإنصاف والموضوعية.

وشدد حيدر على ضرورة أن تضع الجهات التشريعية والرقابية قوانين صارمة تلزم وسائل الإعلام والصحفيين بالتحقق الدقيق من المعلومات قبل نشرها، مع فرض عقوبات رادعة على من يروج للأكاذيب أو يُسهم في تضليل الجمهور. كما دعا إلى تعزيز أخلاقيات العمل الإعلامي عبر تدريب العاملين في هذا المجال على معايير المهنية والنزاهة، ومراقبة المحتوى المعروض لضمان التزامه بالدقة والموضوعية.

كما يرى المتابع للشأن السياسي، سجاد محمد، أن ظاهرة التصريحات غير المنضبطة ليست نتيجة للصدفة، بل هي نتاج تراكم الفوضى والصراعات السياسية. وأشار لـ"الصباح" إلى أن العديد من الشخصيات التي تظهر على شاشات التلفاز تخدم مصالح جهة معينة، وتسعى لتمرير مشروعها من خلال الكذب والاحتيال على المشاهد، وكذلك عبر تلفيق التهم لخصومها السياسيين.

وأضاف محمد أن المحاسبة يجب أن تشمل المؤسسة الإعلامية وبرنامجها الذي يروج لهذه الشخصيات ويفرضها على المشاهد، ما يسهم في تكريس الفوضى، مؤكداً ضرورة مراقبة هذه المؤسسات ووضع لوائح أو قوانين تتضمن عقوبات، مثل الحظر، لمنع نشر هذه النوعية من المحتوى.

من جانبه، أكد المحلل السياسي حيدر الموسوي أن مشكلة التصريحات الإعلامية في العراق تفاقمت بشكل ملحوظ بسبب غياب التنظيم القانوني. وأشار لـ"الصباح" إلى أن حرية الإعلام في العراق قد تشوهت وأصبحت بعيدة عن النصوص الدستورية، خاصة في المادة 38 التي تضمن حرية التعبير، يتم استغلال هذه الحرية لنشر معلومات متضاربة تزيد من الانقسامات الطائفية والمذهبية، ما يهدد الاستقرار الاجتماعي ويعمق الفجوات بين مختلف شرائح المجتمع.

وفي هذا السياق، أكد الموسوي أن الحل يكمن في فرض قوانين واضحة وصارمة لتنظيم التصريحات الإعلامية، حيث يجب أن تضغط هيئة الإعلام والاتصالات على مجلس النواب لتشريع قانون يحدد الضوابط الإعلامية، على غرار الأنظمة المعمول بها في العديد من الدول. كما شدد على أهمية محاسبة الجهات التي تسهم في نشر الفوضى الإعلامية، سواء كانت وسائل الإعلام أو الشخصيات السياسية، إضافة إلى تفعيل دور الجهات الرقابية في ضمان تطبيق هذه القوانين بشكل فاعل.

أما المحلل السياسي غالب الدعمي، فنوه بأن الفوضى الإعلامية لا تقتصر فقط على الصحفيين والإعلاميين، بل تمتد أيضاً إلى أصحاب القرار وممثلي الشعب الذين يطلقون التصريحات الأكثر إثارة للجدل، ما يخلق حالة من القلق وعدم الاستقرار بين المواطنين. وأوضح الدعمي لـ"الصباح" أن التصريحات المتعلقة بالمواضيع الحساسة مثل الموازنة العامة، والوضع الأمني، وملفات الفساد، تؤثر بشكل مباشر في الشارع، خاصة عندما تكون هذه التصريحات غير محسوبة أو تفتقر إلى الوضوح الكافي. وهذا يسهم في نشر القلق بين المواطنين ويؤثر في ثقتهم بالمؤسسات السياسية.

في الصدد نفسه، يقول الإعلامي البارز سالم مشكور: إن "الفوضى الإعلامية" التي يشهدها المجتمع تعود إلى "الحرية غير المنضبطة"، والتي سمحت لأي شخص بالإدلاء بتصريحات دون رقابة أو مساءلة. وفي حديثه لـ"الصباح"، ألقى مشكور اللوم على وسائل الإعلام التي تفتقر إلى الضوابط المهنية، مشيراً إلى أن هذا التراخي يتيح لمقدمي البرامج وضيوفهم نشر تصريحات غير موثوقة، ما يؤدي إلى التأثير السلبي في وعي الجمهور واتجاهاته.

كما أشار مشكور إلى أن العديد من القنوات الإعلامية بدأت تسعى وراء زيادة المشاهدات على حساب المصداقية، وذلك من خلال التركيز على برامج الإثارة والجدل، إذ يتم تبادل الاتهامات والتصريحات النارية بين السياسيين والإعلاميين، ما يؤدي إلى انتشار هذه المقاطع بشكل واسع على منصات التواصل الاجتماعي، دون أي اعتبار للتأثير السلبي الذي قد تتركه على المجتمع.

وأضاف مشكور أن "الأخطر من ذلك هو أن هناك إعلاميين وسياسيين يصرخون ضد الفساد، ليظهر لاحقاً أنهم غارقون فيه، ما يضعف ثقة المتلقي بأي صرخات نزيهة ضد الفساد".

وفي ختام تصريحاته، أكد مشكور أن الحل يكمن في فرض القوانين بشكل صارم ومحاسبة كل من يستغل الإعلام للتلاعب بالعقول وتوجيه الوعي العام بشكل خاطئ.

في عام 2010، قرر مجلس القضاء الأعلى في العراق إنشاء محكمة مختصة بقضايا النشر والإعلام، وذلك في إطار مواكبة التطورات الكبيرة التي شهدها الإعلام العراقي بعد عام 2003. وتهدف هذه المحكمة إلى الفصل في القضايا المتعلقة بالنشر، وتتعامل المحكمة مع القضايا من الجوانب المدنية، مثل القضايا المتعلقة بالتعويضات، وكذلك الجوانب الجزائية التي تشمل القضايا الجنائية مثل التشهير والقذف.

ووفقاً للمراقبين، تعتمد المحكمة في إصدار أحكامها على قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969، وبالتحديد على المواد التي تخص النشر والتشهير والقذف. ويرجع ذلك إلى عدم وجود قانون خاص بالصحافة والإعلام حتى الآن، ما يجعل من الضروري الاستناد إلى القوانين العامة في معالجة القضايا الإعلامية.

ولأن الإعلام يتحمل مسؤولية كبيرة في التأثير على المجتمع، لا بد من التأكيد على أهمية الالتزام بالمعايير المهنية في ممارسته. من هنا، يأتي تصريح الخبير القانوني سعد البخاتي الذي يوضح دور الإعلام كسلطة رابعة، وكذلك المخاطر التي قد تنجم عن غياب المصداقية في هذا المجال.

وشدد البخاتي في حديثه لـ"الصباح"، على ضرورة أن يتحلى الإعلاميون بالمصداقية والوعي، ويعتمدوا على المعلومات الموثوقة قبل نشرها، مؤكداً بالقول "إذا تم استخدام الإعلام بشكل صحيح، فهو يعد عامل بناء، لكن عند غياب المهنية، يمكن أن يتحول إلى مصدر فوضوي يؤثر سلباً في الاستقرار الاجتماعي والسياسي.

وفي ما يخص دور الجهات الرقابية، أكد البخاتي أن المؤسسات التي تتولى الإشراف على الإعلام تلعب دوراً بالغ الأهمية في ضمان نزاهته وضبط المحتوى المعروض. ويذكر أن المؤسسات الإعلامية الرسمية يمكن أن تسهم في تصحيح المسار الإعلامي وضمان أن النقد الموجه يكون بناءً بدلاً من أن يكون هداماً. 

من جهته، أكد الخبير القانوني جمال الأسدي أن التصريحات الكاذبة في الإعلام أصبحت تشكل تهديداً كبيراً على مصداقية وسائل الإعلام وثقة الجمهور. وأوضح لـ"الصباح" أن انتشار هذه الظاهرة يعود إلى أسباب عدة، منها التضليل المتعمد وغياب التحقق من المصادر، والتحيز الإعلامي. وأضاف الأسدي أن الحلول لمواجهة هذه الظاهرة تشمل تعزيز الثقافة الإعلامية لدى الجمهور، وفرض قوانين صارمة لمحاسبة وسائل الإعلام التي تنشر الأخبار الكاذبة عمداً، فضلاً عن مكافحة التضليل عبر وسائل التواصل الاجتماعي باستخدام تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي للكشف عن المحتوى الزائف. وشدد على أن التصريحات الكاذبة في الإعلام ليست مشكلة عابرة، بل هي تحد حقيقي يؤثر في المجتمع، ما يتطلب التعامل معها بجدية عبر التوعية والرقابة والمساءلة.

في هذا السياق، تؤكد هيئة الإعلام والاتصالات، أنها تلعب دوراً كبيراً في تنظيم العمل الإعلامي، وفقاً للمتحدث باسم الهيئة حيدر نجم العلاق، مشدداً على أن دور الهيئة يتركز في ضمان التزام المؤسسات الإعلامية كافة بمعايير لائحة قواعد البث الإعلامي.

وأضاف العلاق لـ"الصباح" قائلاً: "في الهيئة يتم رصد مستمر للبرامج والحوارات التلفزيونية، حيث يتم اتخاذ الإجراءات المناسبة بحق الجهات والأفراد المخالفين الذين يروجون لمعلومات مضللة أو يسيئون أو يرتكبون مخالفة للائحة قواعد البث الإعلامي، مؤكداً بقوله: "لم نتوانَ أبداً عن منع ظهور شخصيات إعلامية خالفت لائحة قواعد البث الإعلامي، كما أوقفنا سابقاً برامج تلفزيونية لم تلتزم بالضوابط المهنية".

وشدد على أن "مسألة تنظيم قطاع الإعلام في البلاد هي مسؤولية مشتركة"، وأكد أن الأمر يتطلب التزام المؤسسات الإعلامية بالمعايير المهنية والتدقيق في المحتوى بشكل عام قبل بثه ونشره على كل المستويات، من أجل ضمان إعلام مسؤول يسهم في تعزيز ثقة الجمهور وحماية استقرار الرأي العام.

وأشار العلاق إلى أن لائحة قواعد البث الإعلامي هي مجموعة من الضوابط والمعايير التي أصدرتها هيئة الإعلام والاتصالات العراقية لتنظيم عمل وسائل الإعلام المرئية والمسموعة في العراق. تهدف هذه اللائحة إلى ضمان التزام المؤسسات الإعلامية بالمعايير المهنية والأخلاقية، وتعزيز حرية التعبير مع الحفاظ على السلم الأهلي والقيم المجتمعية.

وأشار في ختام حديثه إلى أن أبرز محاور اللائحة تشمل: منع التحريض على العنف والكراهية، وضرورة التحقق من صحة المعلومات قبل بثها، وتجنب نشر الأخبار الكاذبة أو المضللة، إضافة إلى احترام التنوع الديني والثقافي، وحماية حقوق الأفراد، مذكراً بأن هذه اللائحة تعد جزءاً من شروط ترخيص وسائل الإعلام، وتستند إلى مواد الدستور العراقي والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان.