الحوار العربي الكردي وعواصف التغيير

آراء 2025/02/10
...

  ابراهيم العبادي

 

بمبادرة مشتركة من مركز رواق بغداد للسياسات العامة،  ومعهد الحقوق الدولية (الكردستاني)، استضافت اربيل الملتقى العربي - الكردي للحوار والتعايش على مدى يومي الرابع والخامس من شباط الجاري، بمشاركة نخبة من الباحثين والاكاديميين والمثقفين والناشطين العرب والكرد، كان الملتقى فرصة جديدة تتيحها مراكز البحوث والدراسات للتحاور في قضايا الهوية والثقافة واللغة والعلاقات بين الاقليم والمركز، ضمن الدولة الفيدرالية العراقية في تجربتها الراهنة التي يضبطها اطار ادارة التنوع.


اكثر ما أثار الارتياح في هذا الملتقى هو تواري الظل السياسي خلف الرؤى الثقافية والفكرية والاجتماعية، وهذا مؤشر مهم -في تقديري -لجهة الغوص العميق في مساحة الوعي والتفكير لدى النخب العراقية غير السياسية، فحوارات الفكر والثقافة والاجتماع والانثروبولوجيا اجدى كثيرا، لعلميتها ومنهجيتها ونتائجها بعيدة المدى، من حوارات الساسة والسياسيين وخطاباتهم واتفاقاتهم وصراعاتهم، لا أنكر أن الفكر والثقافة لهما علاقة وثيقة بترتيبات الحالة السياسية والقانونية بين المركز والإقليم، وإن الملتقى لم تغب عنه السياسة كثيرا، بل إن خلف طروحات الثقافة والفكر كان ينوي الهدف السياسي بل المشروع السياسي، لكن ما ينبغي التأكيد عليه دائما، هو قدرة لغة العلم والفكر والتأطير النظري والدراسات الميدانية والملاحظات العامة المستنبطة من الواقع، على اكتشاف مؤشرات الترابط والتشارك والتشابه والمماثلة في فهم المشكلات والتعبير عنها،  بلغة غير لغة السياسة المتخشبة ومراوغاتها وازدواجية معاييرها.

ثمة علاقات وجدانية وترابط اجتماعي وتداخل ثقافي وذاكرة مشتركة وتاريخ وطني بين العرب والكرد،  رغم التعدد الهوياتي واللغوي والاختلاف السياسي والانقسام الحزبي، لنعترف أن مئة عام من العيش المشترك بين العرب والكرد في الدولة العراقية الحديثة لم يثن الكرد عامة، نخبا وجمهورا واحزابا ومثقفين ومفكرين،  عن متابعة الحلم الكبير، حلم الدولة القومية المتعكزة على حق الشعوب في تقرير مصيرها، رغم كل المشتركات النضالية، التي يسردها العرب والكرد، وما تحقق لهم بعد عام 2003 ودستور 2005، بما فيه تجربتهم الفريدة التي جعلت الكرد يديرون علاقاتهم مع المركز بندية عالية ومطالبات صلبة لمراكمة المزيد من المكاسب، وصولا إلى تحقيق دولة الحلم.

فائدة الملتقى الأخير انه كشف عن ثبات الوعي لدى الفئات الكردستانية المختلفة، على متابعة مشروع الدولة القومية،  وإن لم يكن صريحا أحيانا، وتجد أن المطالبات الحقوقية والدفاع المستميت عن الهوية،  وتقصير (العرب) في الانفتاح على لغة الكرد وثقافتهم، مسوغات للاندفاع نحو مزيد من الخصوصية وتأكيد التمايز،  بما يقود إلى حماية هذه الخصوصية،  وصولا إلى حق تقرير المصير،  رغم الاقرار بأن الكرد قد وافقوا على العيش المشترك مع العراقيين الاخرين،  ضمن العراق الفيدرالي الديمقراطي بموجب الدستور النافذ.

الاصرار على مشروع الامة-الدولة، لم يضعف كثيرا لدى الكرد، وهذا ما يستلزم مزيدا من الحوارات والبحوث المشتركة لجعل العلاقة بين الاقليم والمركز تتحرك في مسارات واضحة،  باتجاه الاندماج والتكامل في عراق موحد متنوع يتشارك في ادارته جميع ذوي الهويات الفرعية،  ولا ينبغي أن تكون الشراكة الحالية باختلافاتها ومشكلاتها سببا لمزيد من التباعد والخصام، وللحق ينبغي أن يقال بأن غير السياسيين هم الأقرب إلى الاندماج والتعايش والتكامل عبر الاستجابة لمستحقات ومطالبات يعتقد اهلها انها ضرورية لحفظ هذا التوحد في العراق الفيدرالي، والاشتغال هنا موجه نحو عبور مفهوم الدولة القومية وتخفيف مركزيات الوعي القومي القائمة على الاختلاف والعصبية، فمرحلة الوعي القومي في طريقها إلى مزيد من الافول في فضاءات العولمة والاوطان متعددة القوميات والثقافات، عالم اليوم متجه إلى مزيد من الاندماجات وفق منطق المصالح المشتركة ذات البعد الاقتصادي والاستراتيجي، لا على اساس التمايزات والاختلافات القومية والدينية، مائة عام من تاريخ المنطقة اثبت لعشرات الملايين من البشر ان جروح سايكس بيكو ونتائج وتقسيمات مؤتمرات سيفر ولوزان، لا يمكن اصلاحها ومعالجتها بذات المنطق القديم، منطق الدول القومية والقطرية، عواصف العولمة وتغييرات الالفية ومفاهيم ما بعد القومية والانسان الكوني، تحتم مراجعة أقانيم الوعي السياسي القارة في اذهاننا، فليس من مصلحة الفرد أن يعيش سجينا لاشتراطات الوعي القومي وخطوط التمايز والاختلاف، المواطن الفرد يريد العيش بكرامة وحرية وكفاية وفرص متساوية وحياة مزدهرة، المواطن اليوم لا يريد أن يكون أسير أوهام العزة القومية ويخسر كرامة العيش والحرية والديمقراطية والتعبير اللغوي والثقافي والديني، منطق الشراكات والتنمية المستدامة والتنوع الثقافي هو ما يبني للإنسان وطنا حقيقيا لا رمزيا،  ليست الدولة نتيجة للتمايزات اللغوية ووليدة لها، دولة الانسان هي الهدف الاسمى، ودولة الانسان هي ما يحمي الأفراد من المظالم وعواصف التغيير التي تهب على منطقتنا مستفيدة من الشروخ والاختلافات والانقسامات القومية واللغوية والمذهبية،  عواصف التغيير توظف التخلف الثقافي والعجز الاقتصادي والتأخر التنموي، لإعادة ترسيم الخرائط السياسية والحدودية، الشرق الاوسط اليوم في عين العاصفة بهدف اقتلاع شعوب وتغيير انظمة،  وتعديل سلوك اخرى وفرض سياسات خلاف جميع قواعد القانون الدولي، نحن في عالم سريع التقلبات، عالم ثقافات ما بعد الحداثة والذكاء الصناعي، حيث يشتد التنافس الدولي ويتعرض الضعفاء إلى قسوة النظام الدولي المضطرب بفعل اباطرة القوة والتكنولوجيا، سيواجه الكرد سؤال جوهري يختصر رؤيتهم الحاضرة والمستقبلية، السؤال يقول: هل يراهن الكرد على عامل الزمن والاشتغال على الاختلافات السياسية لتقريبهم من هدفهم -الحلم؟ أم أن المشتركات الانسانية والمصالح القوية والكبيرة ستعمل عملها لدمج الكرد في الدولة العراقية شركاء ومواطنين بلا ريبة أو هواجس تاريخية وذاكرة مشحونة ؟.

للمثقفين والأكاديميين وصناع الوعي دورٌ أكيدٌ في توجيه هذه الخيارات.