تراجع القُراء.. صفعةٌ للفكر والثقافة المجتمعيَّة في زمن العلم والعولمة

آراء 2025/02/10
...

 بلال الاحبابي


ليس من المجحف ولا من نافلة القول أن نُذكر بأن القراءة تُعد إحدى الركائز والدعائم الأساسية، التي تبنى عليها المجتمعات المتطورة، فهي ليست مجرد وسيلة للحصول على المعلومات، بل هي أداة رئيسة لصقل الفكر ونمو الوعي ووسيلة لتهذيب النفس وتوسيع المدارك والمعارف وتحفيز المهارات والقدرات الفكرية والعقلية، وفي عصر تتسارع فيه وتيرة المعلومات وتتزايد فيه الحاجة لمصادر المعرفة، وتتعاظم الانجازات العلمية والفكرية والتكنولوجية، نجد أن شغف القراءة، الذي كان يوماً ما منارة للفكر والثقافة، ينحدر بشكل واضح وملحوظ ما يعكس واقعاً قلقاً وخطيراً يعكس العلاقة الهشة والضعيفة والتواصل المنعدم والمفقود بين الفرد والقراءة. 

 ومن جهة أخرى فإن الجهل الناتج عن عدم القراءة لا يؤثر فقط على الأفراد، بل يمتد ليشمل المجتمع بأسره، فالأفراد الذي لا يقرؤون بشكل كافٍ يفقدون التفكير النقدي وتحليل المعلومات ولا يكتسبون المعرفة اللازمة لتفهم قضاياهم ومشاكلهم، وفي زمن تتزايد فيه الأخبار المزيفة والمعلومات المغلوطة يصبحون فيه اكثر عرضة للتلاعب والاستغلال من قبل الأفراد أو الكيانات التي لها أهداف ضارة، مما يزيد من تفشي الفساد وانعدام العدالة. كما أن عدم القراءة يؤدي إلى انعدام الثقة في الذات وغياب التفكير النقدي، مما يؤدي إلى ركود في الابتكار والتطور الثقافي والإبداعي، إذ إن التخلف عن ركب التطور الحضاري هي نتيجة مباشرة لعدم الاهتمام بالقراءة. فالمجتمعات التي تهتم بالمعرفة وتستثمر في القراءة هي تلك التي تتمتع بنمو اقتصادي وابتكار وتطور مستدام. وعندما يغيب الاهتمام بالقراءة، يختفي التطوير التكنولوجي ويصبح المجتمع مفصولاً عن المستجدات العالمية. فالتقدم العلمي يحتاج إلى أساس من المعرفة، والتي يتم اكتسابها كجزء من ثقافة القراءة المتجذرة في المجتمع.

تتعدد عوامل تأثير القراءة على تقدم ونهضة المجتمعات، حيث أنها تُسْهِم في بناء أفراد متعلمين قادرين على الإبداع واستغلال الفرص المتاحة. وفي هذا السياق، يمكننا رؤية العلاقة الوطيدة بين القراءة والنمو الاقتصادي، إذ تظهر الدراسات أن الدول التي تزدهر فيها ثقافة القراءة هي أيضاً الأكثر تطوراً وازدهاراً في مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا.

هذا وتتعدد اسباب ومسببات التراجع في عدد القُراء والأقبال على شراء الكتب والقصص والروايات، إذ إن من أبرزها هيمنة وسائل الإعلام الرقمية، فمع ظهور الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبح الوصول إلى المعلومات أسهل وأسرع، لكن هذه السهولة تأتي على حساب العمق والتفكير النقدي، فبدلاً من قراءة كتاب يتطلب وقتاً وجهداً، يُفضل الكثيرون تصفح العناوين والقصص القصيرة على منصات التواصل. وهذا التحول لا يقتصر فقط على تفضيل المحتوى السريع، بل يتعداه إلى تأثيره على طريقة التفكير، إذ إن القراءة العميقة تعزز من قدرتنا على التحليل والنقد، بينما المحتوى السريع قد يؤدي إلى تفكير سطحي وفقدان القدرة على التركيز

من جانب آخر تؤثر العولمة بشكل سلبي في الثقافة ففي عصر العولمة، تتداخل الثقافات وتتقارب، مما يؤدي إلى ظهور ثقافات جديدة قد تؤثر سلباً في الثقافة المحلية. فمع انتشار المحتوى العالمي، نجد أن العديد من القراء يميلون إلى استهلاك الثقافة الغربية على حساب ثقافاتهم المحلية، وهذا التوجه قد يؤدي إلى فقدان الهوية الثقافية، حيث نجد أن الشباب، على سبيل المثال، يفضلون قراءة الروايات العالمية أو مشاهدة الأفلام الأجنبية، بدلاً من استكشاف الأدب والفكر المحلي. وبالتالي، فإن هذا التراجع في القراءة يمكن أن يؤدي إلى تآكل القيم الثقافية والمعرفية التي تشكل أساس المجتمع.

وينبغي أن نشير إلى أن تراجع القراءة لا يؤثر فقط على الثقافة، بل يمتد تأثيره إلى الفكر الإنساني بشكل عام، فالقراءة ليست مجرد هواية، بل هي وسيلة لتطوير الفكر النقدي وتعزيز القدرة على التفكير المستقل، وعندما يقل عدد القراء، فإن ذلك يعني أيضًا تراجعاً في عدد المفكرين والباحثين الذين يسهمون في تطوير المجتمع، فالفكر يحتاج إلى بيئة خصبة للنمو، وهذه البيئة تتطلب تفاعلاً مع النصوص والأفكار المختلفة، وعندما يغيب هذا التفاعل، تتراجع القدرة على الابتكار والإبداع، مما ينعكس سلباً على التقدم العلمي والتقني.

ومن هنا تظهر الحاجة الملحة لإعادة إحياء شغف القراءة، يجب أن تكون هناك جهود مشتركة من قبل الأفراد والمجتمعات. أذ يُمكن أن تلعب المدارس والجامعات دورًا رئيسيًا في تعزيز ثقافة القراءة من خلال إدخال برامج وموارد تعليمية تشجع على القراءة النقدية وتحفز الطلاب على استكشاف الأدب والفكر. كما يجب على المكتبات أن تتكيف مع العصر الرقمي، من خلال تقديم محتوى رقمي وتسهيل الوصول إلى الكتب والمقالات. 

علاوة على ذلك، يمكن للمؤسسات الثقافية تنظيم فعاليات وندوات تشجع على النقاش وتبادل الأفكار، مما يسهم في خلق بيئة تحفز على القراءة. فالمجتمع الذي يقرأ هو مجتمع يتمتع بقدرة أكبر على التفكير النقدي والإبداع، وهو ما يحتاجه العالم في زمن العلم والعولمة.

استخلاصاً لما سبق، يمكن القول إن تراجع القُراء هو أكثر من مجرد إحصائية تُظهر انخفاضاً في عدد الكُتب المباعة أو المقالات المقروءة. إنه يمثل تحدياً حقيقياً للفكر والثقافة المجتمعية، ويحتاج إلى استجابة فعالة من جميع الأطراف، يجب علينا أن نعيد اكتشاف قيمة القراءة كوسيلة لتعزيز الفكر وتطوير الثقافة. فالقراءة ليست مجرد نشاط ترفيهي، بل هي جسر مستدام يربط بين الأجيال ويُسْهِم في بناء مجتمع قوي ومبدع قادر على المواءمة والملائمة والتكيف مع متطلبات العصر ومواجهة التحديات والظروف.


اكاديمي وكاتب عراقي