نجم الشيخ داغر
يعد شهر رمضان من أهم المحطات السنوية الهادفة لإعادة صياغة برمجة الذات الإنسانية، وفقاً للمعايير السماوية التي دعت إليها الشريعة الخاتمة، لا سيما أنه يتناول جوارح الإنسان وجوانحه في آن واحد، وهذا ما سنلمسه جلياً حين تجوالنا في أروقة الخطبة النبوية الشريفة لاستقبال هذا الشهر المبارك.
يستهل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله خطبته الشريفة بالتركيز على هذين الجانبين، بقوله "أَيُّهَا النَّاسُ! أنهُ قَد أَقبَلَ إِلَيكُم شَهرُ اللهِ بِالبَرَكَةِ وَالرَّحمَةِ وَالمَغفِرَة"ِ، إلى أن يقول "هُوَ شَهرٌ دُعِيتُم فِيهِ إلى ضِيَافَةِ اللهِ فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَن حُرِمَ غُفرَانَ الله فِي هَذَا الشَّهرِ العَظِيمِ. وَاذكُرُوا بِجُوعِكُم وَعَطَشِكُم فِيهِ، جُوعَ يَومِ القِيَامَةِ وَعَطَشَهُ وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم".
من الواضح في هذه الخطبة أن ما وراء الأمر الإلهي بالامتناع عن الطعام والشراب، أي الوصول إلى حد الإحساس بالجوع والعطش، هو هز النفس الإنسانية وتنبيهها إلى أمرين مهمين جداً، أحدهما إنساني بحت والآخر يتعلق بمصيرها هي.
الأول هو الشعور بمعاناة المستضعفين من الفقراء المساكين، ومشاركتهم عملياً هذا الإحساس المؤلم من الحرمان، خاصة أن الممارسة والعمل يعطيان أثراً فعالاً في النفس من الكلام والتنظير، فمشاهدة النار غير الاكتواء بنارها، وبالتالي تحريك الضمير الفردي نحو مساعدة هذه الشرائح المحرومة وصولاً إلى تحريك ضمير الأمة بالعمل على القضاء على مظاهر البؤس والفقر والمسكنة .
أما الثاني فيتعلق بمصير النجاة كفرد من أهوال يوم القيامة، ذلك اليوم الذي يجد الإنسان فيه ما عمل حاضراً، والمشتمل على الجوع والعطش وكل مظاهر التعب .
من هنا أمر الله تبارك وتعالى الناس بالتزود لهذا اليوم، وخير راحلة يحمل بها ما يحتاج هناك، هو هذا الشهر بساعاته وأيامه ولياليه، وبما يقدمه الإنسان فيه من صلوات وعبادات وسلوك حسن تجاه أخيه الإنسان .
ثم يعرج النبي صلى الله عليه وآله، بالإشارة إلى أن القضية لا تنتهي بمسألة الجوع والعطش فقط، وإنما كما قلنا في البدء بإعادة صياغة برمجة الذات، وفقاً للشريعة الحقة، وهذا لا يكون إلا حين يترجم الإنسان ما أمرت به الشريعة إلى سلوك حسن، من خلال السيطرة على شهواته ونزواته البهيمية وترويض نفسه بما يجعلها مصدراً للخير فقط، كما في قوله صلى الله عليه وآله "ووقروا كباركم، وارحموا صغاركم، وصلوا أرحامكم، واحفظوا ألسنتكم، وغضوا عما لا يحل النظر إليه أبصاركم، وعما لا يحل الاستماع إليه أسماعكم، وتحننوا على أيتام الناس يتحنن على أيتامكم"، ولعل في الكلمة الأخيرة إشارة إلى أنه من الممكن ألا يختص قوله تعالى (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً) بيوم القيامة فقط وإنما ستعود عليك نتيجة أعمالك من خير أو شر في الدنيا أيضاً، الأمر الذي يفتح لنا باباً جديداً من العلم، ليس محل مناقشته هنا.