القاضي ناصر عمران الموسوي
المفهوم العام للجريمة هو كل انحراف عن المعايير الجمعية التي تتصف بقدر هائل من الجبرية والنوعية والكلية، ومعنى هذا أنه لا يمكن أن تكون جريمة إلا إذا توافرت فيها القيمة التي تقدرها الجماعة وتحترمها، وانعزال حضاري أو ثقافي داخل طائفة من طوائف تلك الجماعة، فلا تعود تقدر تلك القيمة ولا تصبح مهمة لهم، واتجاه عدائي والضغط من جانب أولئك الذين يقدرون تلك القيمة الجمعية، ضد الذين لا يقدرونها
وقد اتفقت اغلب التشريعات العقابية على ان الجريمة هي سلوك اجرامي بارتكاب فعل جرمه القانون، أو الامتناع عن فعل أمر به القانون. وعلى هذا الأساس فالجريمة سلوك إنساني، ولتجسيد هذا السلوك ينبغي أن تكون هناك إرادة وسلوك إنساني (فعل) سلبي أو إيجابي أي عمل أو امتناع عن فعل، وأنْ تتجه الإرادة للقيام بعمل جرمه القانون، او الامتناع عن القيام بعمل أمر به القانون مع توفر الإرادة بهذا الامتناع، أي أن يتزامن هذا الفعل أو الامتناع عن الفعل بوجود نص قانوني يجرم هذا الفعل، وان تكون الأسباب كافية لاحداث النتيجة الجرمية لهذا الفعل أو الامتناع عن القيام به. وللجريمة اركان اساسية ثلاثة هي (الركن المادي وهو ماديات الجريمة، والركن المعنوي وهو القصد الجنائي، والركن الشرعي وهو التجريم القانوني لفعل الجريمة انطلاقا من لا جريمة ولا عقوبة الا بنص) وحين يقع الاخبار عن الجريمة فإنَّ الخطوة الاولى هي الحضور الى محل الحادث او محل ارتكاب الجريمة وكلما كانت الخطوات التحقيقية سريعة كلما توفقت في الوصول الى حقيقة الجريمة ومعرفة الجاني او الجناة وإلقاء القبض عليهم وتقديمهم للمحاكمة، ومسرح الجريمة هو الجغرافيا التي تحدد موقع الفعل وكلما كانت الدقائق الاولى سريعة كانت قرينة
الحقيقة.
وهناك مقولة المانية تقول: “إن الدقائق التي تمر هي الحقيقة التي تفر”، وبالفعل فإنَّ مسرح الجريمة يحتفظ بحقيقة الجريمة ومرتكبها ولكن لاحتفاظه بالحقيقة وقت فهو لا ينتظر القائمين بالتحقيق فهو مرتبط بالوقت الذي يمر وكلما مرَّ فإنَّ مسرح الجريمة يتغير وبتغيره تكون ملامح المشهد الجرمي لارتكاب الجريمة غير واضحة، ما يعني جهداً كبيراً في إعادة تأهيل المشهد وعرضه مرة اخرى وذلك لا يتأتى بالهين وكثيراً ما يستعصي عن الحضور فتكون معاناة القائم بالتحقيق عسيرة وصعبة وقد تختفي بعدها حقيقة الجريمة، فمسرح الجريمة يحوي مختلف الأماكن التي توجد بها أدلة ومؤشرات عن فعل جنائي ما، وهي: المكان الذي تم فيه العثور على الجريمة (يقدر في بعض الأحيان بالكيلومترات، مثلاً في حوادث الطائرات).
والمكان الفرعي الذي شهد فعلاً جنائياً متصلاً بالجريمة والأماكن العامة المستغلة من طرفها.
مع تقدم التكنولوجيا، فإنَّ فحص وتحليل الادلة المادية الملموسة الملتقطة من مسرح الجريمة مقارنة بالماضي أسهل بكثير وموثوقيتها عالية وبالتالي يمكن إجراء تقييم دقيق وقطعي لذلك ومن خلال قراءة موضوعية تحقيقية مستبطنة من خبرة تراكمية تقوم على ربط العلاقة بين الشخص ومحل الحادث وهذه العلاقة تلعب دوراً مهما في تحليل الأدلة
المادية.
وإنَّ بصمات الاصابع وآثار القفازات والدم والحيوانات المنوية والشعر والخيوط والتربة والظروف الفارغة والمقذوفات النارية وآثار الاقدام.. الخ. جميع هذه الادلة هي أدلة وآثار يتركها الجناة في محل الحادث ومسرح الجريمة. ووفقاً لطبيعة الجريمة، يتم الحصول على أنواع مختلفة من الادلة المادية بمسرح الجريمة ويكون البحث والمقارنة مزدوجة ويتم ربط الأدلة بين الجاني والمجني عليه. ومسرح الجريمة هو المكان الحقيقي والفعلي الذي اقتحمه فاعل الجريمة، وبالتالي فهو المكان الذي مكث فيه الفاعل أو الفاعلون فترة من الوقت مكنهم من ارتكاب الجريمة، مخلفين وراءهم آثاراً تدل
عليهم.
مسرح الجريمة يقصد به المكان أو مجموعة الأماكن التي تشهد مراحل تنفيذ الجريمة ويحتوي على الآثار المتخلفة عند ارتكابها، ويعد ملحقاً لمسرح الجريمة كل مكان شهد مرحلة من مراحلها المختلفة. أو هو المكان الذي تقع فيه الحادثة الجنائية أو المكان الذي تنقل له بعض ظواهر الجريمة مثل العثور على جثة المجني عليه أو العثور على أداة الجريمة به، ومسرح الجريمة كما يسميه بعض الشاهد الصامت الذي يستنطقه القائمون بالتحقيق بكل تركيز وفطنة، ومسرح الجريمة هو مستودع سرها وهو قول على بساطته
بالغ الأهمية.
فالمعاينة لمحل الحادث حجر زاوية ينطلق منها مخطط البحث في أي جريمة، إذ إنها أفضل الطرق للوصول إلى إثبات أو نفي وقوع الفعل الإجرامي وكيفية وقوعه ومدى علاقة المتهم بالجريمة وظروفها ويتكون مسرح الجريمة من ثلاثة عناصر يحكم العناصر أعلاه نظرية تبادل المواد لإدموند لوكارد الذي صاغ المبدأ الأساسي لعلم الطب الشرعي: “كل اتصال يترك أثراً”، وهذه العناصر هي: المكان: وهو الحيز الذي وقعت عليه الواقعة الإجرامية من أفعال هي في القانون تعتبر من قبيل الجرائم. الضحية: وهي العنصر الأهم في مسرح الجريمة، إذ منها يستدل على كثير من الدلائل من أهمها أنَّ الوفاة طبيعية أو جنائية أو انتحارية من خلال وضعية الجثة. الجاني: وهو الشخص الذي اقترف الجريمة ويقول الفقهاء إنَّ ليس هناك جريمة تامة، ما يعني أن الجاني سيترك آثاراً وقرائن تدل عليه إما بطريقة مباشرة أو بطريقة غير
مباشرة”.
إنَّ نقل هذه المعاينة للقاضي وإعطاءه صورة لمسرح الجريمة وكيفية ارتكابها يسمح له ذلك بتصور وقوعها ومتابعة إجراءات التحقيق
والمحاكمة.
وهناك ملاحظات في العمل التحقيقي شكلت قصوراً في المشاهدات الحضورية لمسرح الجريمة، فأهمية حضور القاضي لمسرح الجريمة سيمنح المسرح طاقة معلوماتية ترفد التحقيق بالأدلة والصور الواضحة ويزداد الحضور تأثيراً كلما كان القاضي على اطلاع ورؤية فطنة وخبرة ودراية رصينة بمجريات العملية والاجراءات التحقيقية فاستنطاق القاضي لمسرح الجريمة هو ذات مشرط الجراح في العمليات الجراحية، إلا أنَّ الداء المكتبي لقضاة التحقيق جعل العلاقة بين القاضي ومسرح الجريمة يرتبط برابطة الوسيط وهو القائم بالتحقيق.