تحيلنا إشكالية استعمال المصطلحات إلى ضيق الأفق النظري ومحدودية إنتاج المفاهيم في الثقافة العربية، كما تحيلنا إلى مشكلات الاتصال بالثقافات الأخرى، وهي مشكلات قائمة منذ أول اتصال ثقافي أو حضاري بين الشرق والغرب، وهو ما ارتبط بالحملة الفرنسية على مصر، فالحداثة العربية،
إذا ما اتفقنا على بعض سماتها ومظاهرها وتجلياتها، لم تكن نتاج كدٍّ وكدح معرفي وحضاري للعرب، إذ لم تبنَ – كما بنيت الحداثة الغربية- على تحولات حضارية وثقافية ومنطلقات فلسفية وفكرية ومتغيرات ذهنية ومواقف ونزعات بإزاء الكون والخلق والوجود والآخر، وبإزاء الإنسان ذاته وموقفه من الوجود ونظرته للعالم، بل جاءت الحداثة العربية بوصفها وسيلة دفاع
، لا لصد الغازي، الآخر المستعمر المدجج بالحضارة، وإنما للتعارض معه، وجاءت أيضاً بوصفها مواقف اعتبارية لمسايرة المدِّ الحضاري والخروج من حالة التخلف، وهذه المعادلة وضعت المجتمعات العربية في حالة فصام دائم، لأنَّ "الحداثة" –على ما يبدو- بالنسبة للعرب كانت ضرورة من ضرورات البقاء وليس التقدم
، وكانت أحياناً مظهراً من مظاهر الترف والتقليد والادّعاء والنزق الثقافي، وليس الوعي بالحداثة بكونها نزعةً وتاريخاً ومجموعة من الحركات الفلسفية والفكرية والأدبية والفنية والإصلاحات الدينية والتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتقنية التي شكّلت بمجموعها خطاباً بني في الغرب على مركزية العقل وفردانية الإنسان وحريته، وقد تجلّى الفصام العربي بإزاء "الحداثة" في العديد من الإفرازات الواقعية التي حتّمت تعاطياً ازدواجياً، سواء أكان ذلك من لدن النخب العربية أم المجتمعات بصورة
عامة.
لم تشكّل "الحداثة" همّاً حضارياً قبل صدمة "الاستعمار" الأمر الذي جعل المعادلة قائمة على: الإفادة من المدِّ الحضاري ومقاومة الاحتلال، قبول خطاب التحديث الحضاري والحفاظ على الهوية الثقافية. التأثر بالحداثة والمضي بالعصرنة والتمسك بالتراث. المطالبة بالاستقلال وتأسيس دولة حديثة على غرار الأنموذج الغربي من جهة، والتمسك بالمفاهيم والبنى والتقاليد السلفية والقبلية من جهة
أخرى.
إنَّ "الحداثة" الغربية كانت نتاج الدولة الحديثة التي بنيت على أسس الحرية والديمقراطية والنظم العلمانية، ومن ثمَّ هي إنتاج مدن تسود فيها علاقات الإنتاج الصناعي الرأسمالي، وعلاقات المواطنة والمجتمع المدني، وبالنسبة للحالة العربية
، فقد أجمع الدارسون على أنَّ مصطلحي "الدولة والوطن" لا يحملان المعنى الذي ولد معهما في الغرب "فالمؤسسة العربية بوجه عام لا تجد مرجعيتها في سيادة الأمة أو الدولة بل هي تستمد مرجعيتها من العصبة وسلطة الحاكم الفرد" كما يقول الدكتور صالح السنوسي
، بمعنى آخر إنَّ النظام العربي بني على أسس تقليدية صلدة ليس بمقدور (الحداثة) اختراقها
، وهي أسس على الغالب استبدادية تتناقض مع مفاهيم الحداثة في أطرها السياسية والاقتصادية والاجتماعية
، فلم تتوفر لتطلعات الحداثة بيئة للنمو، إذ بقيت المدن العربية محتفظة بأنماط العلاقات الإنتاجية ما قبل الرأسمالية
، وبقي المجتمع المدني العربي ريفياً في عمقه وقبلياً في علاقاته وسلفياً في ثقافته
، على الرغم من محاولات استيراد التقنيات والانفتاح الحضاري وشيوع مظاهر التمدن ومحاولات الإصلاح الديني ودعوات التحديث التقني والثقافي والمعرفي، فالحداثة العربية "ظلّت شعرية فحسب، ولم تؤثر على أنماط الخطابات الأخرى كالفكر والسياسية والاقتصاد" كما يقول الدكتور عبد الله
الغذامي.
وحتى الحداثة الشعرية، نرى أنها موجودة في أذهان النخب العربية وليس في حياتهم اليومية التي ينخرطون بها في مجتمعات تقليدية تحدد ولاءاتهم وانتماءاتهم وتوجّه أنظارهم وتحكم سلوكياتهم وتؤدلج وجودهم وتنمّط تفكيرهم على نظمها التقليدية الموروثة
، فالشاعرة التي تحاول الخروج على النسق وتدعو لتحرر الشعر تستدرك عقلياً فترى أنَّ الحرية التي يتيحها (الشعر الحر) حرية براقة، خطرة، تتحول إلى فوضى إذا نسي الشاعر ما ينبغي ألا ينساه من قواعد، فهذه الحرية التي نادت بها نازك في شعرها، تصبح من المزايا المضللة في (الشعر الحر) فإذا كانت الحداثة وهي في أذهان النخبة بهذه الصورة المهزوزة
، بهذه الدرجة من التردد والخوف من تجاوز الحدود والقواعد
، فما حالها بالنسبة للمجتمع الذي تغلب عليه الأميّة الأبجدية والمعرفية. وللحديث
صلة.