القصة السرية للمهندس الذي كشف برنامج تايوان النووي

بانوراما 2025/03/23
...

 إريك تشيونغ

 ترجمة: بهاء سلمان


بحلول مطلع العام 1988، اِنّشق أحد كبار المهندسين النوويين في تايوان إلى الولايات المتحدة بعد نقل معلومات استخباراتية حاسمة حول برنامج سري للغاية، كان من شأنه أن يغيّر مسار تاريخ تايوان. كان العقيد "تشانغ هسين يي" شخصية بارزة ضمن مشروع الأسلحة النووية في تايوان، وهو أمر سريّ تم التحفّظ عليه بعناية بين ستينيات وثمانينيات القرن الماضي، حيث سارعت تايبيه لتطوير أول قنبلة نووية لمواكبة الصين. وكان هذا المهندس النووي أيضا عميلا سريا لوكالة المخابرات المركزية الأميركية.

كشف تشانغ عن البرنامج النووي السري لتايوان للولايات المتحدة، أقرب حليف لها، ونقل معلومات استخباراتية أدت في النهاية إلى دفع الولايات المتحدة للضغط على تايوان لاغلاق البرنامج، والذي يقول خبراء الانتشار إنه كان على وشك الاكتمال.

وبينما يقول المنتقدون إنه خان وطنه وقوّض قدرة تايبيه على ردع غزو صيني محتمل، أعرب تشانغ عبر مقابلة صحفية نادرة عن اعتقاده بأنه لا يزال يعتقد باتخاذه القرار الصحيح: "لا توجد خيانة على الإطلاق،" هكذا قال للصحافة من منزله في ولاية أيداهو، حيث اِستقّر مع عائلته.

قال الرجل البالغ من العمر 81 عاما: "قررت تقديم معلومات لوكالة المخابرات المركزية لأنني اعتقدت أن هذا التصرّف كان جيّدا لشعب تايوان. نعم، كان هناك صراع سياسي بين الصين وتايوان، لكن تطوير أي نوع من الأسلحة الفتاكة كان يمثل هراء بالنسبة لي".

تتشابه قصة تشانغ مع قصة "مردخاي فعنونو"، المخبر الإسرائيلي الذي كشف عن البرنامج النووي السري لبلاده للعالم. ولكن بينما أعلن فعنونو عن تقدّم بلاده علنا، كان كشف تشانغ عن المخالفات يتم في السر ودون أي ضجة.


طموحات تايوان النووية

خلال العام 1964، وبعد مرور 15 عاما على انتهاء الحرب الأهلية الصينية بانتصار الشيوعيين، وترك القوميين بقيادة الزعيم "تشيانغ كاي شيك" يسيطرون على تايوان فقط، اختبرت بكين بنجاح سلاحا نوويا، مما أثار قلق حكومة تايوان بشدة والتي خشيت أن يتم استخدامه يوما ما ضد الجزيرة.

بعد عامين، أطلق تشيانغ مشروعا سريا لوضع الأساس الفني لتطوير الأسلحة النووية على مدى السنوات السبع التالية. أدار معهد تشونغشان لأبحاث العلوم المشروع تحت إشراف وزارة الدفاع، وهناك بدأ تشانغ العمل كنقيب بعد عام من ذلك. تم اختياره للتدريب النووي المتقدّم، والذي شمل فترات زيارته للولايات المتحدة. وبعد دراسة الفيزياء والعلوم النووية في تايبيه عاصمة تايوان، إلتحق بمختبر أوك ريدج الوطني بولاية تينيسي.

على الرغم من التصريحات الرسمية لتايبيه بأن أبحاثها النووية مخصصة للأغراض السلمية فقط، قال تشانغ إن الطلاب الذين تم إرسالهم إلى الولايات المتحدة كانوا جميعا على دراية بمهمتهم الحقيقية: تعلّم المهارات اللازمة لتطوير الأسلحة. يقول تشانغ: "نحن نعلم على وجه التحديد، على الرغم من أنه ليس ضمن البيان المكتوب، نعرف ما الذي سنفعله، وما نوع المجال الذي يجب أن نركّز عليه. كنا متحمسين نوعا ما ونحاول انجاز المهمة. كل ما فعلناه هو التركيز على المجال الذي كلفونا به، وبذلنا قصارى جهدنا للقيام بذلك، لنتعلّم قدر الإمكان".

يتذكّر تشانغ أنه أثناء وجوده في أوك ريدج، كانت وكالة المخابرات المركزية مهتمة به بالفعل: " خلال العام 1969 أو 1970، أتذكّر أنني تلقيت مكالمة هاتفية، وقال المتصل إنه "كان يعمل مع شركة وأنهم مهتمون بأعمال الطاقة النووية... وعرضوا عليّ اصطحابي لتناول الغداء. آنذاك، قلت إنني غير مهتم لأنني كنت مكلفا بمهمة موجهة؛ لكنني لم أكن أعلم أنه من وكالة المخابرات المركزية؛ ولم أعرف ذلك إلا بعد بضع سنوات".


الشكوك الأميركية

عاد تشانغ إلى تايوان سنة 1977، بعد عام من حصوله على درجة الدكتوراه للهندسة النووية من جامعة تينيسي في نوكسفيل،. تمّت ترقيته إلى رتبة مقدم وقاد تطوير الشفرات السرية لأجهزة الحاسوب لدى معهد أبحاث الطاقة النووية لمحاكاة الانفجارات النووية، وهو مختبر وطني يعمل سرا على تطوير الأسلحة تحت ذرائع مدنية. 

واجه القادة التايوانيون مهمة توازن صعبة: عارضت الولايات المتحدة بشدة برامج الأسلحة النووية الجديدة الصادرة من أي بلد، ولم يكن بوسع تايبيه أن تتحمّل تنفير حليفها الأكثر أهمية. اعتمدت الولايات المتحدة لفترة طويلة على الردع النووي كجزء من استراتيجيتها الأوسع لمواجهة تخزين الصين للرؤوس الحربية النووية. ولكن تحت ظل سياسة منع الانتشار، تعارض أميركا أي دولة تطوّر أسلحة نووية جديدة.

خلال تلك الفترة، لم تكن تايوان الديمقراطية الغنية النابضة بالحياة كما هي اليوم، بل كانت اقتصادا ناميا تحت الحكم الاستبدادي للحزب القومي الصيني، أو الكومينتانغ. واستمرّ ذلك النظام بالاحتفاظ بمقعد لدى الأمم المتّحدة حتى سنة 1971، وحافظ على العلاقات الدبلوماسية الرسمية مع الولايات المتحدة حتى عام 1979. ولأجل الحد من خطر كشف طموحاتها النووية، سعت الجزيرة فقط إلى امتلاك القدرة على انتاج الأسلحة النووية سرا المباشرة، ولكن ليس بناء مخزون.

يقول "ديفيد أولبرايت"، خبير انتشار الأسلحة النووية ومؤلف كتاب "برنامج الأسلحة النووية السابق في تايوان: الأسلحة النووية عند الطلب": "كانت قصص تايوان الكاذبة جيّدة بشكل لا يصدق، فقد أكدوا دائما أن البحث كان لأغراض مدنية فقط.. لم يعرف المسؤولون الأميركيون كيفية اختراق هذه القصة الكاذبة".

لكن خطر اندلاع حريق نووي عبر المضيق الفاصل بين الصين وتايوان كان يثقل كاهل تشانغ. وكان الزعيم الصيني "دينغ هسياو بينغ"، الذي تولى زمام السلطة سنة 1978، قد حذّر من أن الصين سترد بقوة إذا استحوذت تايوان على أسلحة نووية. وأضاف تشانغ: "اعتقد أنهم جادون للغاية، وكنت متيقّنا من ذلك، فلم أكن أرغب بأي صراع بأي شكل من الأشكال مع الصين، وإن استخدام أي نوع من الأسلحة الكيميائية أو النووية القاتلة.. هذا هراء بالنسبة لي. أعتقد أننا جميعا صينيون وهذا لا معنى له".


قرار مدروس

لذا عندما اقترب عملاء وكالة المخابرات المركزية من تشانغ مرة أخرى أثناء رحلة إلى الولايات المتحدة بحلول العام 1980، وافق على التحدّث. يقول الخبير النووي التايواني: "قالوا، نحن نعرفك، ونحن مهتمون بك، وأجرينا محادثة،" مضيفا أن الأميركيين أخضعوه لاختبار كشف الكذب "الدقيق للغاية" للتأكّد من أنه ليس عميلا مزدوجا. وقد ساعد وكالة المخابرات المركزية من خلال بعض المهام غير الرسمية قبل أن يصبح عميلا سريا سنة 1984.

على مدى السنوات الأربع التالية، ضابط ارتباط تابع لوكالة المخابرات المركزية، عرف فقط باسم "مارك"، يلتقي مع تشانغ كل بضعة أشهر داخل منازل مؤمنة حول تايبيه، بضمنها شقة بالقرب من سوق شيلين الليلي، أحد أشهر مناطق المطاعم الشعبية في الجزيرة. خلال تلك الاجتماعات، طلبت منه وكالة المخابرات المركزية تأكيد المعلومات الاستخباراتية، ومشاركة المعلومات حول المشاريع التايوانية النووية الأخيرة، والتقاط صور لوثائق حساسة.

يقول تشانغ: "كانت كل تلك المحادثات احترافية للغاية. كان يأخذ قلم رصاص ودفتر ملاحظات لتدوين إجاباتي. وظل يقول إنهم سيبذلون قصارى جهدهم للحفاظ على سلامتي وسلامة عائلتي".

وعملت كارثة تشيرنوبيل خلال العام 1986 (حادثة نووية كارثية في أوكرانيا عرضّت مئات الآلاف من الناس للإشعاع الضار) على تعزيز قناعة تشانغ بأن وقف برنامج الأسلحة النووية التايوانية أمر ضروري. خلال العام نفسه، كشف فعنونو علنا عن تفاصيل البرنامج النووي السري الإسرائيلي، فسلّم ما كان يعرفه إلى وسائل الإعلام البريطانية وأحدث ضجة دولية. وتعرض للاختطاف من عملاء الموساد لاحقا، وعاد إلى إسرائيل وخضع للمحاكمة، وقضى سنوات من عمره سجينا لديهم.


فصل جديد من الحياة

لقد اتخذت حياة تشانغ، وحياة زوجته وأطفاله الثلاثة، منعطفا مثيرا مطلع العام 1988، عندما قامت وكالة المخابرات المركزية الأميركية بتهريبهم إلى الولايات المتحدة. بحلول ذلك الوقت، كانت إدارة الرئيس رونالد ريغان قد جمعت أدلّة كافية واغتنمت الفرصة التي أتاحتها وفاة الرئيس "تشيانغ تشينغ كو"، نجل الزعيم القومي "تشيانغ كاي شيك"، للضغط على خليفته الإصلاحي "لي تينغ هوي" من أجل التعاون معهم.

ويقول أولبرايت، الخبير والمؤلف، إن تشانغ كان العميل السري الأكثر أهمية بتزويد واشنطن بالمعلومات لأجل اغلاق البرنامج التايواني، مضيفا: "كانت الولايات المتحدة تلعب لعبة القط والفأر مع تايوان بشأن برنامجها النووي لسنوات، وحرص تشانغ حقا على أن يكون لدى الولايات المتحدة أدلة قوية لا يمكن لتايوان إنكارها.. ومواجهة التايوانيين بشكل مباشر".

ومع مرور الأشهر التي تلت رحيل تشانغ، أرسلت الولايات المتحدة متخصصين لتفكيك مصنع فصل البلوتونيوم، وهو منشأة مصممة لاستخراج المواد النووية لإنتاج الأسلحة. كما أشرف الفريق على إزالة مادة المياه الثقيلة، وهي مادة تستخدم كمبّرد لمحطات المفاعلات النووية، وكذلك إزالة الوقود المشع، وهو وقود نووي يمكن إعادة معالجته لاستخراج المواد اللازمة للأسلحة النووية. ثم تم الاعلان عن كون تشانغ شخص مطلوب لتايوان. وانتهى مفعول مذكرة الاعتقال في العام 2000، لكنه لم يعد أبدا إلى الجزيرة، مشيرا إلى عدم تيقنه من كيفية استقباله هناك.


بطل أم خائن؟

حتى الآن، ظل قرار تشانغ بالعمل مع وكالة المخابرات المركزية مثيرا للجدل داخل تايوان، التي واصلت خلال السنوات الفاصلة توسعها الصناعي والاقتصادي الهائل، وأصبحت دولة ديمقراطية كاملة بحلول عقد التسعينيات.

لكن الأعمال العدائية عبر المضيق لا تزال مستمرة، حيث تعرّضت تايبيه لضغوط عسكرية متزايدة من  قبل الصين، التي تمتلك الآن أكبر جيش على مستوى العالم وأصبحت أكثر حزما في مطالباتها الإقليمية بشأن تايوان. وتعهد الحزب الشيوعي الصيني بالاستيلاء على تايوان بالقوة إذا لزم الأمر، على الرغم من عدم سيطرته عليها قط.

تواصل بكين تقزيم حجم جيش تايوان، حيث تنفق حوالي 13 ضعفا على الدفاع. وقد زعم البعض أنه إذا نجحت تايوان في الحصول على أسلحة نووية، فقد تكون بمثابة رادع نهائي، بالتوازي مع أوكرانيا، حيث ربما لم تكن روسيا لتغزوها لو احتفظت كييف بترسانتها النووية من الحقبة السوفييتية بدلا من التخلي عنها.

انتقد بعض التايوانيين تشانغ، قائلين إنه تجاوز الحدود عندما قرر من جانب واحد أن الجزيرة أفضل حالا بدون رادع نووي. ويقول "ألكسندر هوانغ"، الأستاذ المشارك في الدراسات الاستراتيجية بجامعة تامكانغ: "اعتقد أنه خائن"، لأن الأسلحة "كان سينظر اليها كأداة مفيدة عند المساومة من أجل نتيجة دبلوماسية أفضل" مع بكين.

لكن "سو تزو يون"، مدير معهد تايوان لأبحاث الدفاع الوطني والأمن، يقول إن الافتقار إلى الخيار النووي لم يؤثر بشكل مفرط على قدرات الدفاع الحديثة لدولة تايوان الحديثة آنذاك، لأن الذخيرة الدقيقة يمكن استخدامها لتحقيق أهداف مماثلة لتلك التي تستخدمها الأسلحة النووية التكتيكية.

ويردف قائلا: "اعتقدت الحكومة التايوانية خلال تلك الفترة أنه إذا تمكنت الصين من إنزال قوات على أرض جزيرة تايوان، فيمكن للأخيرة استخدام الأسلحة النووية التكتيكية للقضاء على قوات الإنزال. ولكن بغياب تلك الأسلحة، يمكننا أيضا استخدام أسلحة دقيقة مثل الصواريخ لكي تحل محلها".


شراكة ستراتيجية

تشتري تايوان هذه الأسلحة من الولايات المتحدة، التي تظل شريكتها العسكرية الرئيسية، على الرغم من إغلاق البرنامج النووي، حيث تزوّدها بالذخيرة والتدريب وأنظمة الدفاع. إلى جانب الأسلحة، تمتلك الجزيرة ما يعتبره البعض رادعا أكثر فعالية من القنابل النووية. خلال العام 1987، قبل عام واحد فقط من إغلاق البرنامج النووي، أسس رجل الأعمال التكنولوجي "موريس تشانغ" شركة تصنيع أشباه الموصلات التايوانية، التي تنتج الآن ما يقدر بنحو تسعين بالمئة من رقائق أشباه الموصلات المتقدمة للغاية في العالم لشركات التكنولوجيا، بضمنها شركتا أبل ونيفيدا. 

يقول بعض المراقبين إن الدور المتكامل للجزيرة عبر سلسلة توريد أشباه الموصلات العالمية سيكون كافيا لردع الصين عن شن غزو، وتشكيل ما يطلق عليه "درع السيليكون". وواصل أولبرايت، الذي أجرى بحثا مكثفا عن البرنامج التايواني، حديثه بالقول إن نجاح البرنامج النوي لم يكن ليفيد تايوان، مؤكدا: "أعتقد أن هذا كان يمكن أن يزيد من المخاطر العسكرية لهجوم صيني " على حد قوله، "بينما كان بإمكان واشنطن أيضا الرد بتقليص التزامها الأمني، أو الحد من المساعدات العسكرية بمجرّد معرفة قدرات تايوان." أما بالنسبة لتشانغ هسين يي، الذي اعتنق المسيحية واستمتع بلعب الغولف خارج أوقات عمله لدى شركة استشارية للسلامة النووية، فإن القرار الذي إتّخذه قبل أربعة عقود كان صحيحا. "ربما يكون هذا جيدا للشعب التايواني. على الأقل نحن لم نستفز الصين القارية بهذه الطريقة لبدء حرب عدوانية ضد تايوان"، لقد فعلت ذلك بضمير مرتاح، ولا توجد خيانة، وهذا شعوري الداخلي، على أقل تقدير."


وكالة سي أن أن الاخبارية الأميركية