أسرار الظلام.. كيف يتم تهريب الأيزيديات بعد سقوط داعش؟

إيف سامبسون
ترجمة: أنيس الصفار
هن المفقودات .. اللائي انتزعهن إرهابيو "داعش" من وسط عوائلهن قبل عقد من الزمن. من المرجح أن تكون كثيرات منهن الآن في عداد الأموات .. بينما سيق بعضهن الآخر إلى أسواق النخاسة الجنسية .. بيد أن هناك أخريات لا يزلن محاصرات في مخيمات الاحتجاز.
مضى العالم في مسيره، لكن عصبة من الباحثين والمتطوعين أبت التخلي عن هؤلاء النساء.
تنقلت عينا المحققة بحركات سريعة بين الصورتين. في الأولى لاحت فتاة صغيرة قد لا يتعدى عمرها 10 سنوات، بقميص زاهي الألوان وشعر مسدل على كتفيها. في الصورة الثانية بدا وجه امرأة خدّدته الأحداث وبرته الأيام حتى لم يعد بالوسع تقدير عمرها الحقيقي. المرأة متلفعة بحجاب أسود وعيناها تحدقان بعدسة الكاميرا.
الصورة الأولى هي واحدة من بين مئات الصور لفتيات صغيرات وشابات ارسلتها العائلات اليائسة التي تستميت في البحث عن أحبائها اللائي اختطفن منذ سنوات وسنوات حين أغار مسلحو "داعش" وملكوا زمام الأمور إلى حين في بعض المناطق من العراق وسوريا. أما صور النساء الأكبر سناً فهي ترد من مصادر عديدة ومتنوعة.
المرأة التي تتفحص الصورتين اكتسبت خبرة عالية في تقصي والتقاط أصغر التفاصيل التي يمكن أن تؤكد هوية صاحبة الصورة .. ومن بعد ذلك المساعدة على تحريرها. اسمها باري ابراهيم وهي ليست محققة ممتهنة محترفة .. وفي النهار تعمل مديرة تنفيذية لمنظمة غير ربحية في إحدى ضواحي مريلاند.
في الليل، وفي الضوء الباهت المنبعث من شاشة حاسبها المحمول، تعكف باري على تلك الصور تتفحصها باحثة، على أمل تحديد أماكن تواجد نساء أخذن اسيرات منذ عقد مضى.
تقول باري، وهي ماضية في المقارنة بين الصورتين، مدققة في الوجوه بحثاً عن لمحة ما .. ربما تقوس في الشفاه .. أو خال يشي بدلالة تؤكد لها أنها تنظر إلى الشخص المطلوب: "احياناً تجدني في وقت متأخر من الليل مستغرقة في هذا العمل .. أحاول التأكد إن كانت هذه الفتاة الصغيرة شخصاً يمكن التعرف عليه. لقد مرت عشر سنوات والتغير الذي أحدثته في وجه اي شخص ومظهره لابد أن يكون كبيراً. ليس هذا بالعمل السهل."
تنتمي النساء المفقودات جميعاً إلى أقلية دينية تسمى الطائفة الأيزيدية، وقد كانت هذه الطائفة بالذات هدفاً لحملة إرهاب وحشية شنها تنظيم داعش في العام 2014. خلال الأعوام التي تلت ذلك، وفقاً للجنة تابعة للأمم المتحدة، مارس هؤلاء المسلحون المتطرفون أعمال القتل والاستعباد والاغتصاب والتعذيب بلا قيود، حيث تقدر احدى الدراسات أن نحو 3100 أيزيدي قد قتلوا بينما اختطف أكثر من 6800 في شهر آب 2014 فقط.
المنقذون
اليوم، وبعد مضي أكثر من نصف عقد على سقوط دولة الخلافة الدعيّة في سوريا والعراق، لا تزال هناك نحو 2600 أيزيدية مجهولات المكان والمصير، وفقاً لمنظمة السيدة باري غير الربحية المسماة "مؤسسة الايزيديين الأحرار". وفي العام 2022 قدرت وكالة الأمم المتحدة للاجئين العدد بحوالي ثلاثة آلاف. هذه المؤسسة، التي تستخدم تهجئة بديلة في كتابة اسم الجماعة العرقية الدينية، تقدم خدمات الدعم لعدد من الأيزيديات المقيمات في الشتات. العديد منهن افترضن في عداد الأموات، لكن السيدة باري تبقى متشبثة بأمل أن هناك ما قد يصل إلى 1000 أيزيدية لا يزلن في الأسر محتجزات لدى مختطفيهن أو انتقلن إلى حيازة العائلات الأوسع للمقاتلين في انحاء الشرق الأوسط.
تصف الأمم المتحدة المعاملة التي تعرض لها الإيزيديون بالإبادة الجماعية، رغم ذلك توقفت وكالة الأمم المتحدة المفوضة بجمع الأدلة عن فظائع داعش عن العمل في العام الماضي، واليوم لم تعد هناك جهات رسمية تكرّس جهودها للبحث عن اولئك النساء وأطفالهن. لذا تكفلت بالمهمة شبكة واسعة من الناشطين والناجين وأفراد من أسر الضحايا ومخبرين ومحققين هواة متطوعين مثل السيدة باري، وهي أيزيدية غادرت عائلتها العراق في أوائل التسعينات من القرن الماضي. وقد أجرت صحيفة نيويورك تايمز مقابلات مع أشخاص مقيمين في مريلاند وألمانيا واستراليا والعراق وسوريا وانشأوا لهم مراكز فيها.
وصف هؤلاء المتطوعون كيف تعمل في الخفاء شبكة متكاملة للتنقل والاتصال. تبدأ رحلة العمل في هذه الشبكة غالباً بنتفة معلومات أولية او صور فوتوغرافية يجري تبادلها عبر تطبيقات المراسلات. في بعض الأحيان تنقل المعلومات المستقاة إلى عائلات المفقودين، وعندئذ تقوم تلك العائلات باستئجار مخبرين ومهربي بشر كي يتولوا إعادة جمع شملهم بأحبتهم، وفي احيان اخرى تتم مشاركة المعلومات مع السلطات المحلية.
احد افراد هذه الشبكة غير الرسمية، واسمه عبد الله عباس خلف، ساعد في تحرير ابنة اخيه من قبضة تنظيم داعش في 2014 مستخدماً علاقات كونها خلال فترة عمله مربياً للنحل وبائع عسل في مدينة حلب بسوريا. يقول عبد الله، وهو أيزيدي يعمل من داخل العراق، إنه واصل العمل بعد ذلك على هذا الخط فساعد على تحرير أسيرات أخريات مستخدماً طرقاً واساليب متنوعة من بينها انتحال صفة مسلح من التنظيم عبر الإنترنت.
يقول عبد الله: "كنا ندخل إلى قنوات بث تابعة لداعش على منصة تلغرام متظاهرين بأننا أعضاء في التنظيم." ولكي يبدو الأمر اكثر اقناعاً، كما يضيف، كان يستفسر احياناً عن أسلحة ومعدات ايضاً.
يضيف عبد الله: "عندئذ كانوا يرحبون بنا، وبعد فترة من الزمن يبدأون بإرسال صور فتيات أو فتيان معروضين للبيع." بعد ذلك يتظاهر عبد الله بأنه انجرّ للمساومة على السعر لكنها في الواقع تكون محاولة لاستدراجهم كي يطلعوه على أماكن وجود اولئك الأسرى.
أطلع عبد الله صحيفة نيويورك تايمز على لقطات مأخوذة من قنوات مراسلة يبدو انها تابعة لداعش يقوم التنظيم من خلالها ببيع النساء والأطفال. تظهر الصور مستخدمي المنصات وهم يتساومون على الفتيات في سوق النخاسة الجنسية، لكن الصحيفة لم تستطع التحقق من مصدر الصور بشكل مستقل لأن العديد من تلك القنوات قد تحولت إلى قنوات خاصة أو أزيلت منذ ذلك الحين.
عندما كان تنظيم "داعش" في ذروة تجبره في المناطق التي استولى عليها من سوريا والعراق كان استعباد النساء وبيعهن يجري في العلن، لكن العملية بعد ذلك أخذت تجرى في الخفاء، كما يقول الخبراء، حيث صارت النساء والفتيات يعرضن للبيع عبر الإنترنت ومن بعد ذلك يصار نقلهن عبر الحدود الدولية بصمت ودون ضوضاء، الأمر الذي زاد مهمة المنقذين صعوبة.
تقول "ديفورا مارغولن" التي تشغل منصب زميل أقدم في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى: "حين لم يعد لأسواق الرقيق الأيزيديين التي كانت خلال فترة داعش وجود بقيت بعض النساء مستعبدات في قبضة أطراف مرتبطة بداعش واستمر بيعهن عن طريق انصار الجماعة حتى بعد سقوط ما يسمونها الخلافة."
وفقاً لما توصل اليه المحققون والخبراء، علاوة على ما افادتنا به تقارير الأخبار، فإن الأسيرات كن يعثر عليهن في منازل تابعة لأفراد مرتبطين بداعش بعضها يقع في مناطق بعيدة تصل إلى تركيا وقطاع غزة، بينما انتهى المطاف ببعض الأيزيديات مع آسريهن إلى مخيمات صحراوية مكتظة وخطيرة.
تفيد "مبادرة ناديا"، وهي منظمة أخرى غير ربحية تتعامل مع قضية الأيزيديين، أن نحو 3600 أيزيدية قد تمكنّ من العودة إلى عوائلهن. تقول إحدى العائدات، واسمها "شيرين حكرش"، أنها بقيت محتجزة في سوريا مع ابنتيها إلى أن بيعت إلى رجل سعودي. بصوت متقطع يتخلله النشيج والعبرات تحدثت حكرش عبر الهاتف من مستقرها الجديد في استراليا .. قالت إن الكلام عن منظر الفتاتين حين رأتهما آخر مرة في العام 2018 يؤلمها أشد الألم. ثم تمضي مستطردة: "أنا الان لا أعلم شيئاً عنهما .. هل هما على قيد الحياة؟ هل هما بحاجة إليّ؟ كيف هو وضعهما؟"
بعد ذلك أصاب منطقة الشرق الأوسط ما أصابها من اضطراب الأوضاع طيلة عام ونصف مضت فأدى ذلك إلى زيادة الأمور تعقيداً فيما يتعلق بتحديد أماكن تواجد هؤلاء المفقودات وإنقاذهن. ففي العراق مثلاً وجهت الحكومة مؤخراً فريقاً من الخبراء الدوليين الذين يحققون في جرائم داعش بتقليص نشاطهم.
وفي سوريا أدت الإطاحة بالرئيس بشار الأسد إلى تنامي مشاعر الأمل والخوف معاً لدى الأيزيديين. فهم من ناحية يرون فرصة تلوح يريدون اغتنامها للبحث عن مفقوديهم، لكنهم من ناحية أخرى يشعرون بالقلق من أن تفتح أوضاع البلبلة الطريق لعودة "داعش" ونهوضها مجدداً.
مخيمات الاحتجاز
عندما سقطت ما تسمى "دولة الخلافة" في العام 2019 فر عناصر "داعش" منتشرين في ارجاء المنطقة، وقد أخذ بعضهم أسيراتهم معهم. ففي كثير من الاحيان كانت النساء تكرهن على الزواج من خاطفيهن وبذلك يتم دمجهن ضمن العشائر الأوسع التي تعود في وقت لاحق إلى المتاجرة بهن وبيعهن في شتى انحاء العالم.
في شهر كانون الأول الماضي اتهم ممثلو الادعاء الفدراليون في المانيا شخصين قالوا انهما عراقيان ينتميان إلى تنظيم "داعش" بالإساءة الجنسية إلى شابتين أيزيديتين كانا يحتجزانهما كرقيق. احتجزت هاتان الفتاتان من قبل آسريهما عندما كانتا في سن 5 أعوام و 12 عاماً. وفي شهر تشرين الأول أنقذت امرأة عثر عليها في غزة بعد مقتل خاطفها كان التنظيم قد أسرها وهي بسن 11 عاماً ثم بيعت لاحقاً وأرغمت على الزواج من احد مقاتلي حماس، كما يقول المسؤولون الأميركيون.
بعض الأيزيديات تفاقمت أوضاعهن في الأسر سوءاً بعد اعتقال آسريهن، حيث انتهى المآل ببعضهن إلى مخيم الهول، وهو كابوس مترامي الأطراف على صورة مخيم احتجاز يقع وسط الصحراء شرق سوريا. هناك أرغمت الأسيرات الأيزيديات على العيش مع أعضاء "داعش" وافراد عائلاتهم. المخيم نفسه، الذي يحتجز فيه آلاف الأشخاص، مكان شديد الخطورة، حيث تشيع فيه الجرائم وتظهر تقارير بين حين وآخر عن حوادث قطع رؤوس.
يمثل مخيم الهول تحدياً خاصاً لشبكة المنقذين، لأن الأسيرات هناك يتحاشين تعريف أنفسهن بأنهن أيزيديات خوفاً من أن يستهدفهم اعضاء "داعش" المندسين بينهم والذين أعاد بعضهم تنظيم أنفسهم على شكل قوة شرطة دينية. هناك أيضاً من وقعن في الأسر حين كنّ حديثات السن جداً وأصغر من أن يعلمن شيئاً عن أصولهن ومنبتهن.
تقول جيهان حنان، مديرة المخيم التي تعمل مع المحققين الأيزيديين لمساعدتهم في تحرير الأسيرات المقيمات في ذلك المخيم: "الطريقة التي استعبدن بها خارج مخيم الهول هي نفسها في استعبادهن داخله .. فهنالك التعذيب والقسوة وكل شيء."
برجس خضر صبري أحد أعضاء شبكة الانقاذ غير الرسمية، وهو أيزيدي من منطقة سنجار في العراق يعيش حالياً في مخيم عراقي للنازحين داخلياً يبعد نحو 160 كيلومتراً عن مخيم الهول.
من داخل خيمته، مستعيناً بفطنته وهاتفه الذكي دون اي شيء آخر تقريباً، أنشأ برجس شبكته الخاصة من المخبرين، وهي تضم رجالاً يقول انهم اعضاء سابقون في "داعش" ويقيمون الان في مخيم الهول. عن هؤلاء يقول برجس: "أنا لا أثق بهم، ولا هم يثقون بي .. لكن لا مناص لي من العمل معهم، ولست أشعر بالندم على ذلك لأن علي استغلال اي وسيلة تمكنني من اِنقاذ النساء والفتيات المختطفات، إنه أمر يستحق عناء المحاولة."
تقول باري إن "مؤسسة الايزيديين الأحرار" لا تتعامل مع أعضاء "داعش" تحت أي ظرف كان، بيد أن اليأس الذي تعيشه كثير من العائلات، كما يقول برجس صبري، يطغى على شعورهم بالاشمئزاز من التعامل مع اولئك المنتمين إلى الجماعة الإرهابية، وحتى دفع المال لهم.
حين تشخص احدى نساء المخيم بأنها أسيرة أيزيدية محتملة، تعمل السيدة جيهان بالتعاون مع حراس الأمن على ترتيب مقابلة سريّة معها.
تقول جيهان انها أشرفت على تحرير سبع فتيات ونساء أيزيديات من مخيم الهول على الأقل خلال العامين الماضيين فقط.
لكن الأمر لا يكون سهلاً دائماً. فبعض النساء الأيزيديات اللائي أنجبن أطفالاً من آسريهن يخشين ألا يتقبل مجتمعهن الأيزيدي أطفالهن. كما تشعر بعض اللائي تعرضن للاغتصاب بالتهيب من العودة إلى أهلهن لئلا ينبذهن المجتمع. كذلك هناك من وقعن في الأسر وهن طفلات صغيرات ولا يعرفن اليوم شيئاً في الدنيا غير عوائل خاطفيهن، ولعلهن لا يعلمن حتى أنهن أيزيديات.
تقول السيدة باري ابراهيم: "علينا أن نتيقن أولاً من أن اولئك النسوة قادرات على اتخاذ قرارهن في أجواء آمنة."
مروة نواف عباس مثلاً لم تتوانَ عن اغتنام الفرصة بسرعة لنيل حريتها. في مقابلة معها قالت مروة، التي كانت بسن 21 عاماً عندما تم انقاذها: "أبقيت محتجزة لاستغلالي في النخاسة الجنسية طيلة أشهر ثلاثة تعرضت خلالها للتعذيب وجرى بيعي مرة تلو أخرى إلى العديد من إرهابيي داعش."
بعد نجاتها من أيدي خاطفيها في الرقة السورية في العام 2014 عرضت عائلة محلية على مروة الحماية المؤقتة عندها، ومن هناك اتصلت بعمها ودفعت اسرتها المال للمهربين لإخراجها من مناطق سيطرة "داعش" إلى منطقة تخضع لسيطرة الكرد.
من هناك انتقلت مروة إلى المانيا وهي تعمل حالياً في مركز لزراعة الشعر وتقول إنها الآن في غاية السعادة.