جواد علي كسار
منذ أن تكوّنت لي علاقة معرفية بالقرآن، وأنا أنظر إلى آيتين من كتاب الله، باهتمام وانبهار. الأولى قوله سبحانه: ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ﴾ (البقرة: 251) إذ تُشير هذه الآية إلى قانون التدافع في الاجتماع الإنساني، ودوره في استقرار الحياة على الأرض وديمومتها. فمن دون الاجتماع والتعاون بين مجتمعات المركّب الإنساني، والتأثير والتأثّر المتبادل بينها، لا ينعقد هذا الاجتماع، وتفسد الأرض؛ بمعنى يفسد من يعيش على الأرض.
والآية الأخرى، قوله سبحانه: ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ﴾ (الحج: 40). أي من دون التفاعل الإيجابي والتأثير المتبادل، تتعطّل حركة الديانات الكبرى؛ الديانات الإبراهيمية وأهلها، من نصارى ويهود ومسلمين، وهم اليوم بمجموعهم، يؤلفون أكثر من نصف البشرية.
تُشير الآية الأولى إلى أن غياب التدافع يؤدّي إلى فساد الاجتماع الإنساني برمته، والثانية تتحدّث عن فسادٍ يضرب أهل الديانات الإبراهيمية وأتباعها إذا غاب التدافع بينهم. وما يبدو للمتأمل في الآيتين وأفقهما المفتوح على الإنسانية جميعاً؛ مرّة بعنوانها العام، وأخرى بدياناتها الأساسية الكبرى؛ أن التدافع يعبّر عن قانون عام مترسّخ في أعماق الفطرة الإنسانية، وهو يدفع بكلّ أفراد النوع إلى نزعة «التسخير» وإفادة كلّ إنسان من جهود الآخرين وعملهم، وإفادة الآخرين من جهوده، لكي تستمرّ الحياة وتكون المعيشة ممكنة.
وإذا لم يكن قانون التدافع وتسخير الناس بعضها لبعض كي تعيش وتدوم لها الحياة؛ قانوناً فطرياً فهو قطعاً من «الضرورات» إذ لا يمكن لأي مجموعة من الناس أو شعب من الشعوب أو قوم من الأقوام أن يعيشوا وتدوم معيشتهم، من دون قانون التدافع والتسخير المتبادل بين الأمم والشعوب.
أجل، يمكن للتدافع أن يتحوّل إلى البغي والتغلّب، فيكون الاستعمار (بمعناه الحديث) والاستغلال والظلم والتبعية، كما يمكن أن يتحرّك صوب العدل، فتكون قيم العدالة والرفاه؛ إذ لمنطق القوّة دائماً حضوره المؤثر في تحديد اتجاه التدافع، صوب العدل أو الظلم.
على ضوء قانون التدافع أسس القرآن لنظرية الناس، بصفتها الإطار الأوسع حتى من العناوين الدينية، لتنظيم العلاقة بين أفراد الاجتماع الإنساني وأقوامه وأممه. وقد جاء الحديث الشريف يضيء على هذه النظرية بحزمٍ مكثفة من المفاهيم الإنسانية الواسعة، من ذلك: «إنه لابدّ لكم من الناس، إن أحداً لا يستغني عن الناس حياته، والناس لابدّ لبعضهم من بعض» (الكافي، ج 2، ص 635).
لذلك جاء الحثّ على فضيلة قضاء حوائج الناس كافة، قبل أي تصنيف وعنوان ديني أو غير ديني: «إن لله عباداً في الأرض يسعون في حوائج الناس، هم الآمنون يوم القيامة»، وكذلك في الانفتاح الإيجابي بالأخلاق الحسنة مع الناس جميعاً: «أنا زعيم ببيتٍ في الجنة لمن حسّن خُلقه مع الناس»، بل نقرأ في نصٍ آخر: «فجاملوا الناس» من دون تمايز على أي أساس كان، حتى جاء في الحديث: "وإن جالسك يهودي فأحسن مجالسته|.
ضمن حركة التدافع الإيجابي وفي نطاق نظرية الناس القرآنية ـ الإسلامية، نختم بهذه الكلمات عن الإمام الصادق: "صدقة يحبّها الله: الإصلاح بين الناس إذا تفاسدوا، والتقريب بينهم إذا تباعدوا".