د. سمير الخليل
تضعنا مجموعة "كتاب العراقنامة" للقاص محمّد الكاظم إزاء تجربة في الكتابة المختلفة والمتفردة والمرتكزة على تقديم قراءة مغايرة للواقع الملتبس والمأزوم، بانفتاح وقصديَّة باتجاه التجريب والإسقاط والتشفير، وبابتعادٍ كلّي عن النسق السردي المعهود والسائد، عِبر المزاوجة بين مستويات عديدة ومتضادّة من أنواع السرد، والمؤطرة بالسرد التاريخي واليومي والميثيولوجي والغرائبي، ممّا يخلق عوالم فانتازيَّة كوسيلة أو أسلوبٍ لتقديم الواقع من زاوية حرجة، وخارجة عن المألوف والمعهود ومضاهاة أو تماهيات مع أداء فسيفسائي يمزجُ عناصر مختلفة وصولاً إلى نصٍ يثير وعي المتلقّي، ويخلق موجّهاته، وهو يستلهمُ في كلّ هذا معطياتٍ ودلالاتٍ وتوظيفات سرد ما بعد الحداثي من خلال تدمير مركزيَّة السرد، وهيمنة الهامش والإفادة من تدمير البنية السرديَّة الحكائيَّة واشتراطاتها الموروثة باتّجاهٍ مغايرٍ يجمع التضاد والتناقض ويسهمُ في إنتاج كيفيّات ورؤى وإحالاتٍ تعكسُ اضطراب واختلال الواقع نفسه.
وتصبح المغايرة والتمرّد السردي والتمركز حول النسق والبنيَّة الكولاجيَّة نوعاً من التماهي مع الواقع السريالي والعبثي الذي يهيمن على الإنسان والحياة اليوميَّة الكالحة التي تضمّنت أساساً تنويعاتٍ وجوديَّة حادّة اقترنت بالثنائيات المتضادّة مثل (الحقيقة والزيف، والحلم والواقع، والمعقول واللامعقول، والتاريخي واليومي، والمنطق والعبث، والوجود والعدم، والجمال والقبح)، وعلى وفق هذه التجربة في توظيف التنوّع السردي استطاع الكاتب أنْ يقدّم رؤية مغايرة اعتمد فيها روح التجريب والتغريب وصولاً إلى خلق نسقٍ فانتازي في محاولة لإعادة قراءة الواقع بشكلٍ حادٍ ومغاير، من أجل تفكيك عناصر الاختلال والانكسار وإعادة إنتاج وعيٍ ضدّيٍ يثير الاحتجاج والتحريض، ويخاطب العقل والوجدان من خلال تهشيم البنية الخطّيَّة وبؤرة التماسك باتّجاه التشتيت وإشاعة هذا التشظّي بوصف الكيفيَّة التي تناظر وتتماهى مع الواقع الذي يعاني الارتكاس والنكوص، وتقديم صورة للواقع من خلال هذا التقطيع الكولاجي الذي ارتكز على بنية إشاريَّة وعلاماتيَّة تشير إلى حالة الانكسار، واختفت اللّغة والاستلهام المنطقي والتراتبي والخطي ليحلّ محلّه نظام العلامات الكتابيَّة والشفرات والإحالات المنتقاة من التراكم والتداوليَّة الواقعيَّة باتّجاه الأسطرة والتبشيع وإيجاد لغة سردٍ تحوي كلَّ هذه التناقضات والتضادات وتعيد إنتاج الفكرة عن طريق رؤية سرياليَّة تعكسُ أساساً سرياليَّة الواقع، وضياعه وتمزّقه وأزماته وقلقه العدمي، وقد تقترب هذه الكتابة المتمردة من الكابوسيَّة "العدميَّة"، لكنّها كابوسيَّة تخضع لقصديَّة الوعي وتوظيف الدلالة، وتصبح كابوسيَّة منتجة على مستوى استثمار الوسائل والتقنيات لإنتاج وعيٍ ضدّيٍ مرتبطٍ بالمضامين والإحالات والثيمات، وعدم تقديمها بالنسق الخطّي والتراتبي والعقلاني، وبما يفضي إلى نزعة احتجاج ضد اللّغة والنسق والكيفيّات المألوفة كنوعٍ من الاحتجاج داخل الفضاء النصّي نفسه، وإيجاد منطقٍ دلاليٍ جديدٍ بعد إزاحة المنطق التراتبي والخطّي، الأمر الذي جعل المجموعة تسير باتّجاه التجريب على مستوى النّسق السردي، وتعدّد المضامين وجعل التشتّت هو المركز الذي يتنافذ مع المنطق الخارجي، وإخضاعه لمنطق الرؤية الجديدة بزواياها الحرجة التي تكسر نسقيَّة النظام والمنطق والتراتب السردي، ومن ثمّ تفعيل النسق الكولاجي كبديلٍ في خلق انزياحٍ كلي للمنطق السردي المألوف والاشتغال على خلق التبئير الفانتازي بوصفه هويَّة الفكر الذي يحاول تفكيك الواقع الذي لم يعد صالحاً للتناول المنطقي والمألوف.
تبدأ المغايرة من العنوان "العراقنامة" الذي يحيلُ إلى توصيفٍ يمزجُ التاريخي بالواقعي بالميثيولوجي وتتعدّد دلالات الطاقة التأويليَّة لهذه التسمية، ثم يكمل بالعنوان الفرعي "وبذيله مدوّنات الفرقة الناجية بالصدفة"، إذ تضمّن العنوان إحالة إلى شفرة (المدوّنة) وإلى الطاقة التأويليَّة في مفردة أو شفرة "الفرقة الناجية" بوصفها إحالة إلى المتخيل الميثيولوجي وبإطاره الديني والميتافيزيقي، والتشفير الذي يشير إلى ثنائيَّة المحنة أو اللّحظة الحرجة والنجاة منها كصورة للتعبير عن قلق الإنساني والتاريخي والميثيولوجي والفانتازي، حتى يتحوّل المنظور السردي عبر تلك الانزياحات إلى واقعٍ فانتازي يعبّر عن حجم الخراب والالتباس والضبابيَّة العدميَّة التي تهيمنُ على الواقع بكلّ أبعاده السياسيَّة والسيوسيولوجيَّة والوجوديَّة والسايكولوجيَّة.
تحيلنا طريقة تقسيم الكتاب، والكتب المرتبطة به والذيل الكتابي أو الهامشي أو ما يعرف بكتابة المتن والحاشية والكتابة بطبقتين، كل ذلك يعكسُ التشتّت والتهشّم الذي يحكم العلاقة أساساً بين (المركز والهامش، والحقيقة والزيف، والظاهر والباطن، والمظهر والمضمر، والعياني والمسكوت عنه) باتباع طريقة السرد المركّب، وتداعيات البحث عن الحقيقة عِبر أكثر من مستوى وخلق عدّة طبقات ملتبسة في البحث عنها، وكلّ ذلك إشارة سيميائيَّة إلى ضبابيَّة وعدميَّة الرؤية التي تشوّشت وتشوهت بفعل لحظة الانحراف وتضاريسه التي أصابت جوهر الواقع التاريخي واليومي أساساً، ما يجعله خارقاً للنسق المنطقي والعقلاني، ويجعل الوسائل التقليديَّة المتوارثة غير صالحة لتقديم المحمول الكابوسي المغاير.
وانطلاقاً من هذه المعطيات يصبح توصيف هذه الكتابات بـ"القصف" نوعاً من وضع الشراك والفخ باتجاه المتلقيّ، وسحبه على مستوى الاستقطاب في الوقت نفسه تثير مثل هذه الفضائيات والأنساق الكولاجيَّة كثيراً من الأسئلة على مستوى التجنيس وخصائص النوع السردي وخصائصه واشتراطاته، ويصبح السؤال الإشكالي هل هذه قصصٌ أم خروجٌ فنّيٌّ متفرّد، وتمرّدٌ على النسق القصصي وخلق عوالم بديلة للكتابة السرديَّة؟!.