كاظم غيلان
الشاعر له ما ليس لسواه، قيلت هذه الجملة منذ زمان بعيد، وليس ثمة ما يقصد بها سوى قدرته على الخلق، فهو الذي يؤسر الكائنات داخل قفص الشكل كما يرى ذلك (مكلش) وهذه وحدها إشارة لتلك
القدرة.
(جيكور) القرية و(بويب) النهر الصغير، أعادهما (بدر شاكر السياب) خلقا جديدا بالشعر، أشاع اسميهما ولربما جعل منهما دلالات، القرية لم تتسع جغرافيا ربما، والنهر كذلك، لكن السياب رسخ اسميهما على خارطة تجربته الريادية في حداثة الشعر
العربي.
بعض مدن الأرض تنفذ جمالا من كل جهاتها وتعيد بهذه الجماليات خلقها مجددا.
(الناصرية) أحد أبرز هذه المدن، ولن أتحدث هنا من زاوية مناطقية أبدا، ولربما يفهم ذلك من يعرفني
جيدا.
تسلم الصديق الشاعر الراحل كاظم الركابي رئاسة تحرير جريدة (الناصرية) الأسبوعية منتصف التسعينيات فحدثني عن لقاء وزير الثقافة وقتذاك به واستغرابه مما قاله بأن كل (عكد) من الناصرية له القدرة في اصدار جريدة مشيرا لكثرة شعرائها ومغنيها، ولم يكن ذلك الوزير ناصري المدينة إنما عارفا كسائر العارفين
بها.
لم يتغن بالناصرية أبناؤها وحسب، بل غنت لها البغداديتان (صديقة الملاية) و(غادة سالم) كذلك المصري(اسماعيل شبانه) شقيق (عبد الحليم حافظ) من كلمات والحان الناصري (سالم حسين).
تذكرت كل هذا وانا أنتهي من سماع اغنية يلناصرية التي ادتها (غادة سالم) والتي كتبها (زامل سعيد فتاح) ولحنها (طالب القره غولي) ولعلها كانت من اوائل ثمار تعاونهما الفني، وتراءى لي أيضا مشهد النهر الذي يشق جسدي مدينتيهما المتقاربتين (الشطرة) و(النصر)، وهنا تتأكد حقيقة الغناء كنناج بيئوي أكثر من متشابهاته في سائر الفنون الإبداعية.
أية بيئة هذه التي تفتقت بها مخيلة شاعر كزامل وعبقري اللحنية العراقية القره غولي.
السياسيون وقادة العسكر مهما بلغت تضحياتهم ووطنيتهم التي نكن لها كل الحب لا أظنها ترتقي لذلك الحضور في ذاكرة الناس مقارنة بالأغنية حيث تعشق وتدافع عن الوجود الجمالي، ولذا تراها صاحبة النصيب الأكبر في ذاكرة كل منا.
مدينة تغني دائما مثلما تنتفض دائما وكأنها تجسد مقولة هوشي منه:" إلى جانب الكفاح. يجب أن نتعلم كيف نغني"
تلك هي الناصرية، ذلك هو الخلق.