الأهزوجة الشعبيَّة.. وسيلةٌ لاستنهاض النخوة وتأكيد الهويَّة الجمعيَّة

ثقافة شعبية 2025/04/10
...

 بغداد : نوارة محمد


برزت ظاهرة "المهوال" كصوت شعبي يعكس عمق الموروث العشائري والثقافي، لتصبح الأهازيج والهوسات التي يؤديها جزءًا لا يتجزأ من طقوس الحزن والفرح، خاصة في جنوب البلاد. لم يعد "المهوال" مجرد مؤدٍ شعبي، بل تحول إلى شخصية اجتماعية ذات مكانة معنوية في العشيرة، ترتبط حضوره بشحن العزائم، واستنهاض النخوة، وتأكيد الهوية الجمعية.

• من الفولكلور إلى التعبئة

فن الأهزوجة، كما يصفه مختصون، تطور في أساليب الأداء وتبادل الأدوار بين المؤدين، ليأخذ طابعًا تفاعليًا يلهب مشاعر الحاضرين.

ويؤكد الناشط المدني والسياسي زايد عماد أن وجود "المهوال" في الوسط العشائري يمثل حاجة وجدانية ورمزية في آنٍ واحد. يقول لـ"الصباح":"أهم ما يجعل وجود المهوال ضرورة في العشيرة هو قدرته على إيقاظ العزائم وشحن القوة في نفوس الرجال. إن تأثيره النفسي على المتلقين قد يوازي فعل السلاح في ساحات المواجهة، إذ يُثير الحمية ويوقظ النخوة".

• جذورٌ تاريخيَّة 

فن الهوسات والأهازيج ليس طارئًا على الثقافة العراقية، بل يمتد في عمق الذاكرة الجمعية للشعب. وقد لعب هذا اللون من الشعر الشعبي دورًا بارزًا في التعبئة الاجتماعية خلال مراحل النضال الوطني.

الروائي والكاتب يوسف أبو الفوز يعود في تأريخه إلى مطلع القرن العشرين، حيث وثّق استخدام الأهازيج كأداة نضالية خلال ثورة الفلاحين في الفرات الأوسط عام 1920. يقول:

"لقد عرف شعبنا الأهازيج كجزء من تراثه الثقافي، وسرعان ما تطورت لتأخذ أدوارًا متعددة، من التفاخر العشائري إلى التعبير عن الفرح والرثاء. وفي أيام الثورة، كان للهوسات أثر معنوي كبير في شد أزر الثوار ورفع معنوياتهم في وجه الاستعمار البريطاني".

لكن مع قيام ثورة 14 تموز 1958، وانتعاش الحياة المدنية، وتراجع سطوة الإقطاع وشيوخ العشائر، شهدت ظاهرة "المهوال" تراجعًا واضحًا، حيث بقيت مقتصرة على المناسبات الشعبية كالزفاف ومجالس العزاء، دون أن تشكّل مهنة أو وسيلة للكسب.

• الاستغلال السياسي 

في عهد النظام البعثي، يقول أبو الفوز، تحوّل العديد من فناني الأهازيج إلى أدوات بيد السلطة، بفعل القمع والتدجين الذي مارسته مؤسسات النظام البوليسي. ويضيف: "شهدت تلك الحقبة استغلالًا ممنهجًا للفن الشعبي، حيث جُنّد عدد كبير من المثقفين ليصبحوا أبواقًا للتمجيد والدعاية، فاستخدموا الهوسات لخدمة السلطة بدلًا من خدمة المجتمع".

• المهاويل والثقافة الشعبية؟

رغم حضور "المهوال" المتزايد، تطرح أوساط فكرية وثقافية أسئلة نقدية حول مدى تمثيله للثقافة الشعبية العراقية. ويرى البعض أنه لا يجسد الثقافة الشعبية بمفهومها الشامل، بل يمثل بعدًا محددًا مرتبطًا بالبيئة القبلية والريفية.

الكاتب والناقد عبد الخالق كريم يوضح هذا الجانب قائلاً: "المهاويل لا تعكس الثقافة الشعبية بمفهومها الحضري أو المدني، بل تعكس جانبًا منها يتجلى في المجتمعات العشائرية التي لا تزال محكومة بقيم عرفية وقبلية. إن المهوال شخصية تعكس هذا الامتداد التاريخي، وتعيد إنتاج المنظومة الأخلاقية التقليدية عبر الشعر والأهازيج، مما يعزز مكانة القبيلة وهويتها داخل نسيج المجتمع".

• الأصالة والتحديث

تُسلط ظاهرة "المهوال" الضوء على التداخل المعقد بين الأصالة والتحديث في المجتمع العراقي، حيث تعيش التقاليد القديمة جنبًا إلى جنب مع تحولات الحداثة الاجتماعية. وبين من يرى فيها استمرارًا لتراث ثقافي أصيل، ومن يعتبرها شكلًا من أشكال الانغلاق على موروثٍ لم يعد يتلاءم مع روح العصر، يظل "المهوال" حاضرًا بقوة في المشهد الاجتماعي، يلعب دور الشاعر والخطيب والمعبّر عن مشاعر الجماعة في آنٍ

واحد.