د. حيدر عبد السادة جودة
يصف أحد الباحثين، نقلا عن أحد المؤرخين الغربين، القرن العشرين بالطويل، كونه قد شهد حربين كونيتين مدمرتين، وشهد أيضاً أهم الانقلابات الفكريَّة في الفن والعلم، ونالت الفلسفة فيه أيضاً نصيبها، إذ أتت فلسفة اللغة التي عدت ثورة البحث عن المعنى. ومن ثمَّ توجهت الفلسفة في القرن العشرين نحو اللغة، بل أصبحت فلسفة لغويَّة.
ويشير عبد الرحمن بدوي إلى أن أكثر مجالات الدراسة في العلوم الإنسانيَّة نشاطاً في هذه الأعوام الأخيرة علم اللسان العام.
وتعد فلسفة اللغة من الموضوعات الأساسية والمهمة في العصر الحديث، وإلى جانب أهميتها في حقول المعرفة المعاصرة، فلها جانب آخر يترتب على تناولها لأهم انجازات الجنس البشري، أقصد اللغة ذاتها. حيث تعد اللغة من أعظم منجزات الجنس البشري، لأنّها تمس فروعاً مختلفة من المعرفة، وتؤدي طوائف عديدة من الأغراض، فهي عمل فسيولوجي لأنّها تدفع عدداً من أعضاء الجسم إلى العمل، وهي فعل إنساني لأنّها تتطلب نشاطاً إرادياً من العقل، وهي ظاهرة اجتماعية لأنّها وسيلة اتصال بين البشر، وهي أخيراً حقيقة تاريخيَّة ثابتة من عصور متباعدة في القدم. واللغة بمثابة البعد الحقيقي الذي تتحرك فيه الحياة الإنسانية، فحيثما تكن اللغة فثمة تجد الإنسانية. فاللغة وجدت بين الناس وللناس، والمجتمع البشري وجوده محال من دونها، فنحن نراها في كل مجتمع، وتستعمل في كل مجال، ولا غنى عنها كوسيلة اتصال أساسية. أو كما يقول بدوي بأنّها سبيل الاتصال بين الذوات الوجوديَّة.
ويجب أن نفرّق في البدء ما بين اللغة وفلسفة اللغة، فتعرف اللغة على أنّها نسق من الإشارات والرموز، تشكل أداة في المعرفة، وفي حفظ واستعادة منتجات الثقافة الروحيَّة والبشريَّة. ويعرف ابن جني اللغة على أنّها أصوات يعبر كل قوم بها عن أغراضهم. أما فلسفة اللغة، فهي لا تهتم باللغة بشكل رئيس، بل إنّها حديث فلسفي عن اللغة، أو تفلسف حول اللغة. فضلاً عن ذلك يجب أن نفرق ما بين فلسفة اللغة والفلسفة اللغوية، إذ أن الفلسفة اللغوية تكون مرادفة لمصطلح التحليل اللغوي، ولا تقدم سوى منهج لحل مشكلات فلسفية تواجه اللغة العادية، في حين إن فلسفة اللغة تمثل محاولة لتقديم وصف فلسفي لملامح عامة في اللغة من قبيل الإشارة والمعنى والصدق.. إلخ. مضافاً إلى أن الفلسفة اللغوية تدرس الميزات العامة لبنية اللغات طبيعياً، وتاريخياً، والذي يسمى بـ (الفيلولوجيا)، من هنا تعالج فلسفة اللغة مسائل تعد كلية بالنسبة إلى جميع اللغات في حين أن علم اللغة يختص بلغة من دون أخرى، ومن ثم ففلسفة اللغة تمثل حديثاً فلسفياً عن اللغة وليست دراسة اللغة.
ويطرح "أريك غريلو" مستويين لفهم فلسفة اللغة، أحدهما بالمعنى الواسع والآخر بالمعنى الضيق للمفهوم، أما المفهوم الواسع لفلسفة اللغة فيشير إلى كل فلسفة تعرضت في أثناء تطورها إلى مسألة اللغة وتناولتها بشكل منفصل، وبهذا المعنى تتحدد فلسفة اللغة مع أفلاطون.. أما بالمعنى الضيق للمفهوم فيشير إلى تيار رئيس في الفلسفة المعاصرة، مهيمن في العالم الأنجلوسكسوني. وإلى ذلك يذهب "الزواوي بغورة" حين يقرر وجود تعريفين لفلسفة اللغة، أحدهما تقليدي أو عام، والآخر حديث أو خاص، أما التعريف العام فهو الذي يرى في فلسفة اللغة مختلف الآراء التي قيلت في طبيعة اللغة، قبل ظهور الأبحاث اللسانية والمنطقية، والتأويلية، أو قبل ظهور الدراسات المنطقية والرياضية والدراسات الوضعية للغة. أما التعريف الآخر وهو الحديث أو الخاص فيشير إلى أنه لم تصبح اللغة موضوعاً مركزياً في الفلسفة الحديثة والمعاصرة إلا بعد تطورات أساسية أهمها ما حصل على مستوى دراسة اللغة كعلم وثانياً ظهور المنطق الرياضي والتحليلات المنطقية والرياضية والممارسات التأويلية الناجمة عن التفسير القديم.