د. جاسم حسين الخالدي
لطالما كان الأدب العراقي الحديث مرآة للقلق الوجودي الناتج عن الحروب والاغتراب والمنافي، لكن رواية "يقين المتاهات" لكريم الهاشمي تتجاوز كونها شهادة على تجربة المنفى، لتصبح نصا قائما على متاهة سرديَّة تتشابك فيها الأزمنة والوعي. فمنذ لحظاتها الأولى، يضعنا السرد أمام شخصية مضطربة، محاصرة بقراراتها وأوجاعها، وكأنها تعيش داخل متاهة نفسيَّة لا خلاص منها.
تنطلق الرواية من استبطان ذاتي عميق، يجعل من تجربة البطل ساحةً لصراعٍ داخليٍّ متواصلٍ بين ذاكرة الوطن التي تطارده، وواقع الغربة الذي لم يمنحه الطمأنينة. عبر توظيف تقنيات تيار الوعي والاسترجاع، ينجح السرد في خلق صورة ذهنيَّة مضطربة، تتجلّى من خلال التداخل الزمني والفضاء النفسي المشوّش. لكن هل تنجح الرواية في تقديم رؤية سرديَّة متجاوزة لموضوع الاغتراب التقليدي؟، هذا ما تحاول هذه القراءة استكشافه.
تقوم "يقين المتاهات" على ثنائيَّة رئيسة تتكرر في الأدب العراقي المعاصر؛ ولا سيما السردي منه: ثنائية الوطن والمنفى. لكن الرواية لا تقدم هذه الثنائية بصورتها المباشرة، بل تعيد إنتاجها عبر مستويات سرديَّة تجعل القارئ يعيش التجربة بدلًا من أن يكتفي بمشاهدتها. فـ "نوح"، الذي يغادر العراق هربًا من القمع السياسي ووطأة الحرب، لا يجد في المنفى خلاصًا حقيقيًا؛ بل يكتشف أن غربته لم تكن جغرافية فحسب، وإنما نفسية ووجودية.
يظهر ذلك بوضوح من خلال تقنية التذكّر المتشظي؛ إذ تتداخل مشاهد الماضي بالحاضر، وكأنّ الوعي لم يعد قادرًا على فصل الزمانين. فنجد البطل يعود مرارًا إلى لحظات مهمة في حياته داخل العراق: الطفولة، الأصدقاء، الحب الأول، والانكسارات السياسية. لكنه في الوقت نفسه، يجد أن هذه الذكريات لا تمنحه أي يقين، بل تعزز من ضياعه الداخلي.
تتمثل هذه الثنائيَّة أيضًا عبر رموز متعددة داخل الرواية، مثل: الماء بوصفه صورة تجسّد اضطراب الوعي وتشوّش الرؤية، حيث تظهر الانعكاسات المشوّهة في الماء إشارة إلى فقدان الثبات.
المرآة التي تتكرر في عدة مواضع، لتجسد لحظات المواجهة مع الذات؛ إذ يرى " نوح" وجهه منقسمًا بين شخصيتين: واحد تركه في الوطن، والآخر لم يجده في المنفى.
الصحراء والفراغ اللذان يُحيطان بـ "نوح" في منفاهُ، مما يصوّر حالته النفسيَّة، ويؤكد أن الغربة ليست مجرد فقدان مكان، بل حالة وجوديَّة لا مهرب منها.
أحد أبرز عناصر التميّز في الرواية هو الأسلوب السردي الذي يجمع بين التأمّل الفلسفي والواقعي. فالسرد لا يعتمد فقط على الأحداث، بل يذهب إلى ما هو أبعد، متأمّلًا في طبيعة القرارات المصيريَّة وتأثيرها في الإنسان. في هذا السياق، تترك الاقتباسات التي تبدأ بها الرواية أثراً مهماً، إذ تمهّد لفكرة أنَّ الشخصية الرئيسة عالقة في متاهة من التساؤلات حول اختياراته وقدره.
يستعمل الهاشمي لغة شاعريَّة في بعض المواضع، خصوصًا في المشاهد التي يسترجع فيها البطل ماضيه، بينما يجنح إلى لغة تقريريَّة أكثر حدّة في المشاهد التي تصف واقع المنفى. هذا التباين في الأسلوب يصوّر حالة " نوح" المتأرجحة بين الحنين إلى الماضي والاصطدام بواقع لا يمنحه الطمأنينة.
كذلك، يعتمد الكاتب على بنية سردية غير خطية، حيث يتم الانتقال بين الأزمنة والأحداث بطريقة تعكس اضطراب البطل. فالقارئ لا يسير في خط مستقيم، بل يجد نفسه يتنقل بين الحاضر والماضي، كما لو كان هو الآخر داخل المتاهة.
تؤدي الأحلام والكوابيس أثرًا جوهريًا في تعميق شعور " نوح" بالضياع؛ إذ تتداخل الأحلام مع الواقع، إذ يرى البطل في نومه مشاهد متقطعة تعكس صراعاته الداخلية. يتكرر في الرواية مشهد الحلم بالسجن أو الهروب في ممرات ضيقة لا تؤدي إلى أي مخرج واضح، وهو تجسيد مجازي لمأزقه الوجودي. هذه الأحلام ليست مجرد استرجاعات نفسية، بل هي أداة تفكيكية تجعل القارئ يشك في حقيقة الأحداث، مما يعزز طابع الرواية القائم على التشظي السردي.
المكان في الرواية ليس مجرد خلفية للأحداث، بل هو عنصر فاعل في تشكيل وعي الشخصيات. يمكن ملاحظة التقابل بين نوعين من الفضاءات:
فضاء السجن والزنازين: مكان مغلق وضيق، لكنه مليء بالصراعات الداخلية التي تكشف عمق التجربة البشرية في مواجهة السلطة والقهر. وفضاء المنفى والمدن الجديدة: على عكس السجن، هو فضاء مفتوح لكنّه لا يمنح الأمان، بل يكرّس الشعور بالغربة والتيه، مما يجعل "نوح" يعيش في متاهة أكبر من متاهة السجن نفسه.
وكذلك يتكرر الفضاء الطبيعي "الماء، الصحراء، المرايا" في الرواية بوصفه امتداداً لحالة "نوح" الداخلية. الماء العكر يعكس اضطرابه النفسي، في حين الصحراء تجسّد الوحدة والفراغ، والمرايا المتكسّرة تعكس تفكك الهوية.
تنتهي الرواية بإدراك مؤلم لـ "نوح": أن المتاهة لم تكن في المكان، بل في داخله، وأن البحث عن اليقين كان في الحقيقة محاولة للهروب من مواجهة الذات. وهنا، تصل الرواية إلى لحظة ذروتها الفلسفيَّة، إذ يتحول سؤال "أين أنتمي؟" إلى سؤال أعمق: "هل يمكنني الهروب من نفسي؟".
لا تمنح الرواية إجابة حاسمة، بل تترك القارئ أمام تساؤلات مفتوحة، مما يعزز من عمقها الفكري. فبدلًا من تقديم نهاية واضحة، تتركنا الرواية أمام إدراك أن اليقين قد يكون وهمًا، وأن المتاهة هي جزءٌ من طبيعة الوجود ذاته.
تقدم يقين المتاهات تجربة سرديَّة غنيَّة على المستويين: النفسي والفني؛ إذ تظهر أزمة الإنسان العراقي من منظور جديد، يتجاوز التوثيق المباشر إلى خلق تجربة سرديّة تفاعليّة. باستعمال بنية متاهية، ولغة تجمع بين الشاعرية والفلسفة، تنجح الرواية في تقديم صورة معقدة للهوية والضياع، تجعل القارئ يتماهى مع شخصيتها الرئيسة، بل وربما يجد نفسه في متاهته الخاصة.
بهذا، يمكن القول إنَّ كريم الهاشمي لم يكتب مجرد رواية عن المنفى، بل عن الإنسان في صراعه الدائم مع نفسه؛ إذ يظل السؤال الأهم: هل اليقين ممكن في عالم المتاهات؟.