د. عبدالكريم المصطفاوي
رغم معرفتي بولع خضير فليح الزيدي بالرواية وروادها، إلا أن عنوان المجموعة القصصية "خالي فؤاد التكرلي" أثار تساؤلات عدة في نفسي: لماذا هذا العنوان؟ ولماذا يتقمص الزيدي سدارة التكرلي ومعطفه؟ ما حاجته لذلك وهو كاتب له حضوره الواضح في خارطة السرد العراقي؟
لكن الإجابة لم تتأخر طويلا، ففضلا عن وجود قصة تحمل عنوان المجموعة – وهو سبب كافٍ لشرعنة التسمية – فإن الاستدعاء الذكي لكبار السرد العالمي يعزز هذا التوجّه من "كاواباتا إلى ماركيز، ومن دوستويفسكي إلى غوغول، ومن وولف إلى تشيخوف وزافون وهيغو وسفايغ إلى ألبير كامو".
بهذا يتضح أن التكرلي لم يكن المقصود الوحيد بـ "الخؤولة"، بل هو رمز لجميع هؤلاء الكبار الذين شكلوا هوية الزيدي السردية، وأعاد من خلالهم تأكيد انتمائه إلى جغرافيا الإبداع العالمي، لا المحلي فحسب.
تنتمي نصوص هذه المجموعة إلى أدب ما بعد الحداثة بامتياز، حيث تتراجع مركزية الحدث لصالح اللغة المكثفة، ويُوظَّف التراث بطريقة حداثويَّة. نلمس ذلك بوضوح في الاستحضار الذكي لـ "ألف ليلة وليلة"، مع تمثلات جديدة لشهريار وإمبراطور العصر – آمر الفوج العسكري – الذي يطلب من جنوده من يجيد القصّ على مسامعه، لا ترفًا بل قسوة وتهديدًا.
بهذا يلتقط الزيدي روح الليالي الساحرة ويعيد تقديمها برمزية عالية، تفتح النصوص على تأويلات متعددة، وتخلق تمازجًا بين الألم والمتعة، الجمال والعوز، الحياة والضياع.
تتوزع قصص المجموعة بين السريالية، الحرب، السيرة الذاتية، الفنتازيا الواقعية، الرومانسية، والإيروتيكا. أما نهايات القصص جاءت متنوّعة وغير تقليدية، إذ تجنّب الكاتب ما يُعرف بضربة النهاية، باستثناء قصة واحدة هي "… ثم جارك".
لقد اعتمد الزيدي في الكثير من نصوصه أسلوب السخرية اللاذعة، ناقدًا بها فوضى العالم المعاصر، حيث يَشيع الموت، وتنتشر الأمراض والفقر، وتُزهق الأرواح لأسباب تافهة.
ففي قصة "كائن الأحذية"، يظهر هذا المنحى الساخر السريالي، إذ يقدّم الزيدي من خلال بطل القصة رؤية مغايرة للأشياء "التافهة"، رافعًا من قيمتها الجمالية والمادية، بحدس إبداعي مرهف وانحياز واضح للهامشي والمنبوذ. كذلك يوظف السرد متعدد الأصوات "البولي فونيك"، كما في قصتي "من وجهة طرف ثالث" و"وذلك الذي لا يُسمى"، ويعتمد التداعي الحر والمونولوج الداخلي كما في "لحم طازج".
أما في قصة "وذلك الذي لا يُسمى"، فنشهد تجلّيًا رائعًا لفن الأنسنة، إذ يتحوّل السرطان إلى شخصية ناطقة بلغة فصيحة، ويخبرنا عن جوعه ورغبته في نهدي زهراء، في مشهد بالغ الجرأة والعمق من دون اللجوء إلى تقنيات السرد التقليدية.
ليست الحبكة أو الحدث ما يشكل قلب القصص، بل اللغة ذات البنية البلاغية العالية، والموسيقى الداخلية، والتشابيه الفخمة، هي ما يصوغ عالَم الزيدي.
قصص الزيدي تشبه في أثرها "سجادة كشميرية" منمنمة، تترك في نفس القارئ نشوة وذهولًا، وربما رغبة في العزلة، خوفاً من مغادرة هذا العالم السردي الساحر.
الزيدي كاتب حسّاس للفكرة، وهذا ما يجعل قصصه لا تستند إلى تهويل الحدث، بل إلى عمق الفكرة وبساطة الطرح، كما نرى في "البنت الكبرى"، إذ يغوص في سيكولوجيا الأنثى، ويكشف لنا تفاصيل دقيقة في تفكيرها وقلقها وتوقها الدائم للمعرفة.
لدى الزيدي قدرة فنية عالية في التلاعب بالزمن، متنقلًا بين الماضي والحاضر ضمن بنية دائريَّة لا تفقد القارئ بوصلة الأحداث. هذا التنقل يتمُّ بسلاسة واحتراف، من دون أن يشعر المتلقي بالارتباك أو الحاجة لإعادة تتبع الحبكة.
قصص خالي فؤاد التكرلي تحمل أبعادًا إنسانية، ومضامين جمالية وفكريّة عميقة، مكتوبة بروح عراقية خالصة، لكنها لا تقف عند حدود الجغرافيا، بل تعبر نحو العالم بروح كونيّة. هي قصص تُمثّل علامة بارزة في السرد العراقي المعاصر، وبصمة فريدة في الأدب العربي.