الصين تشهر سلاحها السري

آراء 2025/04/17
...

 نرمين المفتي 

قال هنري كيسنجر في مذكراته المنشورة في كتاب ضخم ان “ من يتحكم بالموارد يتحكم بالمستقبل، والصين تعرف هذا جيداً”. وكان كيسنجر، الذي وُصف بأنه الديبلوماسي الأمريكي الأكثر خبرة في الشؤون الصينية، تنبأ بالدور الصيني القادم في التأثير على العالم، وطالما نصح صانعي السياسة الأمريكية بعلاقات جيدة مع الصين وكان عراب زيارة الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون إلى الصين في 1972 ولقائه بالرئيس الصيني ماو تسي تونغ.

 ويبدو واضحا الآن تحكم الصين بالعالم والمستقبل بعد الضجة العالمية التي تسبب بها قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بفرض تعريفات جمركية على غالبية دول العالم ومن بينها الصين وبنسب مختلفة، العالية منها كانت من نصيب الصين والتي قال عنها خبير الاقتصاد السياسي الصيني، د. لي شانغ، في حوار صحفي بأنها “ليست مجرد رسوم جمركية، إنها حرب استراتيجية على مستقبل الصناعة والتكنولوجيا”. وجاء رد الصين وكأنه تصعيد خطير للحرب التجارية بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية. اذ أقدمت على خطوة استراتيجية قد تهز أسس الصناعة العالمية. ففي الرابع من نيسان الجاري، فرضت بكين قيوداً صارمة على تصدير ستة معادن أرضية نادرة ثقيلة، بالإضافة إلى المغناطيسات المصنوعة منها، في رد مباشر على الزيادة الحادة في الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الثاني من نيسان. ولم يسمع الكثيرون وانا منهم عن هذه المعادن النادرة إلا بعد قرار الصين وهي ستة وتدخل في اهم الصناعات الأمريكية خاصة وفي صناعات الدول المتقدمة عامة. ووجدت خلال البحث انها ضرورية جدا لتوربينات الرياح التي تنتج الطاقة وأساسية لصناعة الشاشات الحديثة وللأجهزة الذكية وتشمل العمود الفقري للصناعات الحديثة وللعديد من الأسلحة المتطورة والطائرات الحربية المتطورة جدا ولمحركات السيارات الكهربائية، والأكثر خطورة في القرار الصيني في حظر تصدير المغناطيسات الدائمة المصنوعة من هذه المعادن، والتي تدخل في صناعة: 90 بالمئة من السيارات الكهربائية العالمية و 80 بالمئة من أنظمة الأسلحة المتطورة و75 بالمئة من الروبوتات الصناعية. وسيؤدي هذا الحظر، كما تشير التقارير الصحفية إلى احتمال توقف انتاج مصانع تسلا التي يملكها الملياردير ومستشار ترامب، ايلون ماسك، والخاصة بالسيارات الكهربائية خلال ستة 

أسابيع وشركات مثل لوكهيد مارتن تواجه أزمة في تصنيع طائرات F-35 وقطاع الهواتف الذكية (آبل وسامسونج) قد يشهد نقصاً حاداً. وعلق البروفيسور ديفيد ويلسون من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) على القرار قائلا “نحن أمام سيناريو كابوسي: أمريكا قد تضطر لتفكيك أسلحتها لاستخراج المعادن من مكوناتها القديمة”. وكأن د. لي تشينغ، الخبير الاقتصادي، الذي اشرت إلى حواره، رد عليه بقوله “من يسيطر على هذه المعادن يسيطر على مستقبل الصناعة والتقنية في العالم». 

وفعلا، استخدمت الصين سلاحها السري الذي يكمن في هذه المعادن ببراعة، لدرجة اعتبر فيها خبراء الاقتصاد القرار ضربة استراتيجية موجعة للصناعة الأمريكية. يقول السيناتور الأمريكي جون كينيدي: “نحن أمام خيارين صعبين: إما أن نرضخ لشروط الصين، أو نخاطر بشل صناعاتنا الحيوية”. وتكمن المفارقة أن أمريكا، رغم قوتها العسكرية والاقتصادية، تجد نفسها في موقف الضعف هذه المرة، لأن تطوير مصادر بديلة للمعادن النادرة يحتاج لسنوات، بينما تحتاج المصانع الأمريكية هذه المعادن اليوم وليس غداً. وقد تضطر واشنطن وتحت ضغط الشركات لخيارات صعبة من بينها خفض الرسوم على 200 مليار دولار من الواردات الصينية (احتمال 40 بالمئة) وفرض عقوبات على شركات التعدين الصينية (30 بالمئة) وتسريع مشاريع التعدين المحلية (لكنها تحتاج 3- 5 سنوات). وليست الولايات المتحدة الأمريكية المتضررة الوحيد من القرار الصيني بحظر تصدير هذه المعادن، إنما أوروبا واليابان التي تستخدمها في صناعاتها ودول عربية مثل السعودية والإمارات التي تستثمر اموالا ضخمة في مشاريع إعادة تدوير المعادن النادرة. وكان ترامب يأمل بالسيطرة على هذه المعادن النادرة الموجودة في أوكرانيا والذي اعلن في وقت سابق “بلاده ستوقع اتفاقية المعادن الأرضية النادرة مع أوكرانيا في وقت قريب”. ويبدو أنه استعجل باتخاذ قرار التعريفات الجمركية قبل توقيع الاتفاقية مع أوكرانيا والذي قطعا سيعقبها السيطرة الروسية على انتاج الكثير منها. من جهة اخرى، قد تكون روسيا من المستفيدين غير المتوقعين من هذه الأزمة، حيث تمتلك احتياطيات كبيرة من هذه المعادن، كما أن دولاً مثل الكونغو الديمقراطية، التي تزود العالم بمعظم احتياجاته من الكوبالت، قد تصبح لاعباً رئيسياً في هذه المعادلة.

وتشير التطورات إلى أن العالم قد يكون على أعتاب تحول جذري في موازين القوى. فكما يقول البروفيسور في العلاقات الدولية ديفيد كاميرون: “ما نشهده اليوم ليس مجرد نزاع تجاري، بل هو إعادة تشكيل للخريطة الجيوسياسية للعالم، حيث تصعد قوى جديدة وتتراجع أخرى».

وبينما تتواصل هذه الحرب الاقتصادية الخفية ولكنها بالغة الأهمية، يبقى السؤال الأكبر: هل ستنجح أمريكا في تجاوز هذه الأزمة، أم أننا نشهد بداية عصر جديد تهيمن فيه الصين على مفاتيح الصناعة والتقنية العالمية؟ الإجابة قد تحددها الأشهر القليلة القادمة، لكن ما هو مؤكد أن العالم لن يعود كما كان بعد هذه الأزمة.