الاستقلال القضائي والممارسة الديمقراطية

العراق 2019/07/15
...

القاضي ناصر عمران الموسوي
تقترن الديمقراطية بممارسة السلطة بشكل يحقق المفهوم العام للمصطلح والذي يعني تداول السلطة بشكل مشروع وسلمي يضمن المشاركة الحقيقية والفاعلة للمواطن وهي مسيرة معقدة ومركبة تحتاج إلى مجموعة من العوامل والشروط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتربوية والقانونية والمؤسساتية ومن هذه الشروط وجود علاقة قوية متبادلة بين القضاء والممارسة الديمقراطية؛ فالديمقراطية بحاجة  إلى قضاء مستقل قادر على مقاربة مختلف القضايا والملفات بنوع من الجرأة والنزاهة والموضوعية؛ بعيدا عن أي تدخل قد تباشره السلطات الأخرى؛ مثلما يظل القضاء من جانبه بحاجة إلى شروط موضوعية وبيئة سليمة مبنية على الممارسة الديمقراطية التي تعزز مكانته وتسمح له بتحقيق العدالة المنشودة وبالتأكيد فان حجر الاساس في ذلك هو التطبيق الحقيقي لمبدأ الفصل بين السلطات والذي تلخصه مقولة لإدوارد جيبون صاحب كتاب “ اضمحلال وسقوط الامبراطورية الرومانية “ التي جاء فيها أن (مزايا أي دستور حر تعدو بلا معنى حين يصبح من حق السلطة التنفيذية ان تعين اعضاء السلطة التشريعية والقضائية) كما ان المادة 16  من إعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789 تؤكد أن: “كل مجتمع لا تكون فيه ضمانات للحقوق؛ ولا فصل للسلطات؛ ليس لديه دستور “.لقد أكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في الفقرة الثالثة من مادته الحادية والعشرين أن “إرادة الشعب هي مصدر سلطة الحكومة؛ ويعبر عن هذه الإرادة بانتخابات نزيهة دورية تجري على أساس الاقتراع السري وعلى قدم المساواة بين الجميع وقد تزايد الاهتمام الدولي في العقود الأخيرة بقضايا الديمقراطية باعتبارها عنصرا أساسيا من عناصر الحماية الدولية لحقوق الإنسان؛ وتبين ذلك سواء من خلال التدابير والإجراءات التي تتخذها الأمم المتحدة بوصفها منظمة عالمية أو من خلال بعض التدابير الانفرادية التي تقودها بعض الدول الكبرى في مواجهة الأنظمة التي تعدها غير ديمقراطية، بالصورة التي أضحى معها احترام الديمقراطية وحقوق الإنسان مؤشرا أساسا ضمن مجموعة من المؤشرات التي يقاس بها مدى تقدم وتطور الدول .وإذا كانت الممارسة الديمقراطية تسمح بخلق فضاء مناسب لبناء قضاء قوي؛ فإن وجود قضاء مستقل يشكل من جانبه دعامة متينة للممارسة الديمقراطية وترسيخ المساواة أمام 
القانون. 
ويقصد باستقلالية القضاء؛ عدم وجود أي تأثير مادي أو معنوي أو تدخل مباشر أو غير مباشر وبأية وسيلة في عمل السلطة القضائية؛ بالشكل الذي يمكن أن يؤثر في عملها المرتبط بتحقيق العدالة، كما يعني أيضا رفض القضاة أنفسهم لهذه التأثيرات والحرص على استقلاليتهم 
ونزاهتهم. ويفترض أن يقوم مبدأ الاستقلالية على مجموعة من المرتكزات التي تعززه؛ من قبيل اختيار قضاة من ذوي الكفاءات والقدرات التعليمية والتدريبية المناسبة، ومنحهم سلطة حقيقية تتجاوز الصلاحيات الشكلية؛ وتسمح للقضاء بأن يحظى بالقوة المتاحة للسلطتين التشريعية والتنفيذية نفسها؛ وتجعله مختصا على مستوى طبيعة الهيئة القضائية والصلاحيات المخولة؛ مع توفير الشروط اللازمة لممارستها في جو من الحياد والمسؤولية، بالإضافة إلى وجود ضمانات خاصة بحماية القضاة وهو ما اكده الدستور العراقي في المادة (88): القضاة مستقلون، لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولا يجوز لأية سلطة التدخل في القضاء أو في شؤون العدالة. وبالإضافة الى  استقلالية القاضي فان الامر يتطلب وجود هيئة مستقلة تسهر على اختيار القضاة وتعيينهم على أساس الكفاءة وتأديبهم. وينطوي مبدأ فصل بين السلطات على أهمية كبرى على اعتبار أنه يحدد مجال تدخل كل سلطة على حدة ويمنع تجاوزها، غير أن هذا المبدأ لا يعني الفصل التام  والمطلق بين السلطات الثلاث (السلطة التشريعية؛ السلطة التنفيذية؛ السلطة القضائية) ذلك أن القاضي يظل بحاجة إلى سلطة تنفيذية تسمح بتنفيذ الأحكام والقرارات، كما يظل بحاجة أيضا إلى قوانين ملائمة تصدرها السلطة التشريعية؛ كما أن المشرع بدوره يظل بحاجة إلى السلطة التنفيذية والقضائية؛ والسلطة التشريعية بحاجة إلى السلطتين القضائية والتنفيذية.
 إن السلطة التنفيذية لا يجوز أن تتطاول على المهام القضائية بالضغط أو التأثير؛ أو الامتناع عن تنفيذ الأحكام والقرارات الصادرة في حقها من قبل مختلف المحاكم؛ أو تعطيل تنفيذها أو توجيه النقد إليها؛ مع الحرص على توفير الشروط التقنية والمادية الكفيلة بضمان حسن سير العدالة. و على السلطة التشريعية أيضا؛ ألا تتدخل في أي منازعة تندرج ضمن الاختصاص المخول للقضاء ويعتبر القضاء المستقل مؤشرا محوريا ضمن مؤشرات نجاح التجربة الديمقراطية ومسيرة التنمية الإنسانية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية..؛ فهو مدخل فعال للتغلب على الجريمة في مختلف أبعادها ووسيلة رئيسة لتكريس العدالة وحماية الحريات وضمان احترام حقوق الإنسان؛ وسيادة الثقة في القانون والمؤسسات والتشجيع على الاستثمار؛ كما أن هناك علاقة وطيدة بينه وبين بناء مجتمع ديمقراطي تضع فيه الدولة الضمانات التي  تكفل استقلال السلطة القضائية والنص على ذلك ضمن بنود الدستور أو القوانين الأخرى، والذي يجعل فصل السلطة القضائية في القضايا المعروضة عليها بشكل مستقل ومحايد؛ بعيدا عن أي ضغط أو تهديد أو تدخل مباشر، أو غير مباشر عدم التدخل في الإجراءات والتدابير والأحكام والقرارات القضائية و ضمان سير الإجراءات القانونية بعدالة واحترام حقوق الأطراف؛ ثم توفير الموارد اللازمة والكافية التي تسمح للسلطة القضائية بأداء مهامها بطريقة 
سليمة.
ومن خلال ما سبق؛ يتبين أن استقلالية القضاء؛ تتأسس على مرتكزات ذات طابع شخصي ترتبط باستقلالية القاضي نفسه وحياده وحصانته المادية والمعنوية؛ وأخرى ذات طابع موضوعي ترتبط بتقوية القضاء بالشكل الذي يجعل منه سلطة حقيقية على قدم المساواة مع السلطتين الأخريين وعدم التدخل في مهامها واختصاصاتها من لدن السلطتين الأخريين(التشريعية والتنفيذية) أو التطاول والمساس بالاختصاص الأصلي للقضاء .
إن استقلالية القضاء هي تجسيد للعدالة وعنصر محوري ومهم ضمن الأسس التي ترتكز إليها دولة القانون وهي شرط من الشروط الضرورية التي تؤسس لتوازن السلطات؛ بما يسهم في ضمان الاستقرار داخل المجتمع ويكفل سير المؤسسات بشكل سليم؛ ويرسخ ثقة المواطنين فيها (المؤسسات) ويحمي الديمقراطية نفسها من كل انحراف ولعل تجربة الانتخابات الاخيرة التي اثارت الكثيرة من الاشكاليات وجدت الحل بعد ان تم منح المهمة الى قضاة يمارسون مهام اعضاء المفوضية العليا  المستقلة للانتخابات بعد ان تم ايقاف عمل المفوضين وبالفعل استطاع القضاء خلق حالة استقرار سياسي ومجتمعي بعد ان شهدت نتائج الانتخابات الكثير من الطعون بنزاهتها ولذلك فأن وجود قضاء مستقل يؤكده ويحميه الدستور هو شرط أساس للديمقراطية يتجاوز في أهميته إجراء الانتخابات ذاتها. إن الاهتمام بالقضاء وضمان استقلاليته يفترضان ايجاد ثقافة اجتماعية وقانونية مع توافر إرادة سياسية حقيقية مع شروط قانونية وتقنية مختلفة .وهو مدخل حقيقي يسهم في تعزيز وترسيخ الممارسة الديمقراطية على أسس 
متينة.