دأبنا منذ أربعين عامًا على قراءة المصطلح النقدي من خلال الترجمة، واعتمدناه ثقافة واستعمالا واستعارة، لأنه لايوجد مصدر للمعارف غير الترجمة، وكنت قد كتبت مقالًا في عام 1978 في الملحق الأدبي لجريدة الجمهورية، قلت فيه ما معناه: أننا نتلقى المصطلح النقدي الجديد عن طريق ترجمة أدباء المغرب، “فالنقد الجديد يولد في بيئتهم”، لمعرفتهم اللغة الفرنسية أولا، ولابتعادهم إلى حد ما عن التراث النقدي العربي ثانيا. وكانوا بمجهودهم المعرفي ينقلون إلينا خميرة تجربة أوروبية غنية بمصادرها وتحليلاتها. وبالفعل، مازلت أقول حتى اليوم، أن النقاد المغاربة هم الأكثر حرصًا على رفدنا بالجديد في ميدان النظرية النقديَّة.
وفي السنوات الأخيرة ظهرت مجموعة من المترجمين العراقيين الشباب، أخذوا على عاتقهم ترجمة كتب الحداثة الفلسفية، ولهذا الجهد الكبير مجال آخر لنتناول إنجازاته المتميزة.
لماذا لا يكون المصطلح النقدي المترجم ضمن سدى ولحمة الثقافية العربية؟، مثل ما كانت كتب الفلسفة اليونانية يوم ترجمت ولخصت للعربية؟، وسرعان ما اندمجت تلك الترجمات في الثقافة العربية، وأصبحت جزءا منها، وبدأت الكتابة الفلسفية إلى جوار ما ترجم من كتب الفلسفة اليونانية، وعدَّ ذلك العصر بالعصر التنويري للثقافة العربية، ومركزه
بغداد.
اليوم وبهذا الزخم من الترجمات، التي قام بها نقاد ومفكرون، لهم باع طويل في فهم اللغتين، لم نجد نهوضًا موازيا لما يُترجم في ثقافتنا النقديَّة، إلا في حدود الاستعارة من المترجمات.
ربما يكون الأمر مختلفا عن تلك البدايات التي بدأت في العصور العباسية، إذ لم تكن الثقافة العربية تخرج عن ميدانين مهمين هما: الشعر واللغة، واذا وجد ابداع، ففي باب النقد والفلسفة والسيرة، ولكن بحدود لم تكن منتشرة في عموم البلدان الناطقة بالعربية.
أما اليوم، فقد اتسع ميدان التأليف في شتى المجالات، وانحسر إلى حد كبير مجال التأليف الفلسفي إلا بحدود من درس في أوروبا، أو ما تقوم به بعض الجامعات، وهو انجاز كثير إذا قيس بالعصور السابقة، وقليل إذا قيس بالإنتاج الثقافي في أيامنا هذه.
المسألة ليست بالكم، حتى نطالب أن تقوم المؤسسات لسد الهوة، فما ترجم يفوق قدراتنا على الاستيعاب، وكأنّ الترجمة اليوم هي التأليف الحقيقي لهوية الثقافة العربية، بعدما كانت القصيدة والرواية في العقود الستة الماضية، المسألة في قلة التأليف الإبداعي والنقدي الذي يستوعب ويوازي كتب الترجمة الحديثة، وها نحن ننظر إلى مكتباتنا لنجدها مليئة بكتب الترجمة، وبأنواعها الفلسفية والنقديَّة والحداثية وما بعدها، ولكن لم نجد الكثير من التآليف الجديدة التي توازي هذا الكم النوعي من الكتب المترجمة.
للظاهرة أسباب كثيرة، لعل الأمر يستدعي طرح سببين أو ثلاثة، وهي الأسباب الظاهرة التي تشير إلى عمق الهوة بين ما نقرأ من كتب حداثوية مترجمة، وما نقرأ من إنتاجات نقديَّة مؤلفة.
السبب الأول: أن كتب الترجمة الحداثوية لا تتعلق بحداثتنا السياسية والمجتمعية، ولذلك فهي محملة بتجارب أوروبية وبمناخات غربية في ميادينها المختلفة وصلت إليها حياتهم الفكرية والفلسفية، فكانت الترجمة من لغات أوروبية للغات أوربية متوازنة مع تطور تلك المجتمعات.
هم يقرؤون كتبًا حديثة، ويعيشون حياة اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية حديثة، إن لم تكن في تقدم متوازن. هذه أولى المواقع التي لا نجد فيها رابطًا يجمع بين ما يترجم لنا وما يعاش في حياة الاوروبيين..
السبب الثاني: أن الترجمات في أوروبا، التي ابتدأت منذ قرون طويلة، كانت قد وضعت نصب عينيها تحديث أوروبا بمفاصلها المختلفة، اعتمادا على ثقافة اليونان والرومان الفلسفية، حين وضعت كل دولة أوروبية برامج لاِستيعاب هذه النهضة، بعد انحسار الدين عن الهيمنة السياسية والثقافية. لقد وضعت كل دولة برنامجا خاصا لتطوير جامعاتها وحياتها الثقافية، ومن بينها الترجمة والتأليف.
بحيث سار درس الجامعات بجوار دروس الثقافات العامة وفروعها المدنية والتعليمية، فتمكنت أوروبا بقرنين أن تتثقف بها بالرغم من اختلاف اللغات بين دولها، لأنها تسير بخطى متوازنة مع حاجاتها في النمو والتطور، فلم يشعر الفرنسي بغرابة عمّا يترجم في المانيا وانجلترا، والعكس كذلك، لتنهض أميركا وتدخل ميادين الترجمة والعلم والمعرفة والتقنية، معمّقة المسار الأوروبي في الفلسفة والعلم والإبداع، وتضيف إليها إنجازات جديدة في الانثروبولوجيا والأديولوجيا، كتوازن مدروس مع نهضتها الفلسفية
والعلمية.
السبب الثالث: إن الجامعات العربية، لم تجد نفسها أمام مسؤولية النهوض بالثقافة العربية، عبر اعتمادها مناهج دراسية علمية، من بينها الترجمة والتعليم والتثقف، فكيف بها أن تجد الطريق إلى الحداثة وهي تتغذى من فلسفة الحكومات المختلفة الأديولوجيات، لاسيما أن المنطقة كلها وضعت تحت عين المستعمر، ووجدت أنها ما يحدث فيها يصب في صالح الدول الغربية، التي امتلكت العلم والتقنية، لذلك لا دورَ مهما للجامعات العربية لأنها لم تكن إلّا جامعات صبيانيّة تقدّس الماضي، وتحافظ عليه من الثقافة والفلسفة
الحديثة.
ماذا بإمكاننا أن نعمل كافراد، والهزائم والمؤامرات الكثيرة تحاك لجعل المنطقة بكلّ ما اوتيت من تراث وتاريخ وموارد متخلفة، متراجعة إلى الوراء، خاصة وان دول الجوار أخذت دور الاستعمار الغربي، للهيمنة عن طريق الدين والقومية على مقدرات بلدان كان التنوير جزءا من هويتها.
نعود لما بدأنا به، مازلنا نعوّل على ترجمات المغرب العربي، لأنّها الأكثر ارتباطا بالحداثة الأوروبية، ومازلنا نعوّل على فئة المترجمين العراقيين الشباب الذي استيقظوا مؤخرًا ليترجموا أُمهات كتب الحداثة، ولكن ليس بمشروع واضح المعالم، إنَّما اجتهاد فردي، بالرغم من أن البلدان العربية تتكلّم لغة واحدة، وباستطاعة الترجمة أن تختصر الكثير من الفهم المشترك، لتصل إلى مدارات استثمار واسعة، على العكس من أوروبا واختلاف لغاتها يوم ذاك.
ومع ذلك توحّدت أوروبا وتأخّرنا نحن. حقيقة أشعر شخصيًا، أنني ضمن المشروع الغربي للترجمة، المشروع الذي نهض به المترجمون العرب، ولكن ما لم يجد هذه المشروع طريقه لمؤسسات الدولة الحديثة، وتصبح جزءًا من مشروعها التنويري وخاصة دور الجامعة والثقافة الإبداعية، سنبقى نتعكّز على عصورنا العباسيّة القديمة، وندّعي أننا (كنا) خير أمة أخرجت للناس؟!
أما اليوم فمشروع حداثتنا عليه ان يمر من خلال المشروع الغربي، دون أن نفقد هويتنا. وهو ما يؤكده بعض المترجمين التنويريين، التي ترافق دراساتهم الحديثة نظرة إلى مثيلاتها في الثقافة العربية القديمة. ولهذه الظاهرة شواهدها التي نجدها في البحث الفلسفي والنقدي عند المثقفين
المغاربة.