د. عبد الواحد مشعل
لا شكَّ أنَّ القيم الإنسانية هي من يميز الإنسان عن غيره من الكائنات الحية، وطالما كان الاقتصاد مجالا حيويا في بناء المجتمعات وتقدمها، فلا بدَّ أنْ يوجه الاقتصاد الى خدمة الإنسان، ويرفع من قيمه الأخلاقية، وإلّا أصبحت وظيفة الاقتصاد صماء صنوانها الربح والخسارة، لا تعمل على تنمية القدرات المادية والفكرية وتطويعها في خدمة الإنسان ورفع قيمه الإنسانية والأخلاقية، وهذا ما يقصده أصل الفكر الاقتصادي الخلدوني، ويجعله عنواناً لرقي الأمم وتطورها الحضاري، لذا اعتبر ابن خلدون العلاقة المتبادلة بين الاقتصاد والقيم الأخلاقية جوهر وجود الإنسان على هذه الأرض، اقترنت برضى القيم الروحية العليا السنن والقوانين الإلهيّة التي ترجمها الإنسان بقوانينه الوضعية بصفتها أساس بناء دولته المدنية العادلة، فالقيم الاقتصادية إذا كانت لا تأخذ القيم الأخلاقية في نظر الاعتبار وتعمل على تعزيزها في اقتصاد هدفه رفعة الإنسان، وإلّا عُدَّ سائرا في خدمة حفنة من الأفراد بينما تسحق الأغلبية.
لا شكَّ أنَّ الاتجاه الحديث في الانثروبولوجيا هو دراسة الإنسان كعنصر فاعل في عملية التغير الثقافي، وتقوم على معرفته عملية التطور الحضاري بهدف إشباع حاجاته المختلفة مؤسساً بذلك الانتماء الوطني في أي مجتمع تبنى فيه هذه العلاقة مؤدياً وظيفته الإنسانية في بناء بيئة إيجابية تمكّنه من الوصول الى أنموذج مجتمعي منتج يصون كرامة الإنسان ويحقق ذاته. وطالما كان ابن خلدون من علماء الانثروبولوجيا والاجتماع الذين أكدوا تأثير العلاقة بين السلطة والاقتصاد وانعكاسها على قيم الإنسان الأخلاقية، فإنَّ المجتمعات المعاصرة تواجه تحديات ضخمة، جراء تسخير السلطة للاقتصاد لمصالحها وهو ما يظهر واضحاً في كثير من المجتمعات النامية التي تدار من قبل نظم شمولية ما يجعل الاقتصاد القومي بكامله رهناً لسياساتها الداخلية والخارجية على أساس توجه ايديولوجي أحادي، والتي غالباً ما تكون متقاطعة مع ما يرغبه ويريده المجتمع من رفاهية، وقد ألقى هذا الواقع بآثاره السلبية على البلاد، وهذا ما حصل في بعض الدول النامية ومنها العراق، لذا نجد في قراءة الفكر الخلدوني- مع اختلاف الأدوات والرؤى التي كانت تحكم الاقتصاد في زمن ابن خلدون- تفسيراً بيّناً لاستحواذ السلطة على مقدرات البلاد وتوجهها لصالحها أو إدخال البلد في حروب وأزمات، ما ينعكس ذلك على منظومة القيم الأخلاقية ويؤدي الى تصدّعها فتزداد مشكلات الإنسان ازدياداً كبيراً في المجالات كافة، تظهر جراؤها أنانية الإنسان بشكل مخيف مهددة القيم الأخلاقية في الصميم.
إنَّ بناء علاقة مفيدة وقوية بين الاقتصاد والقيم الأخلاقية يتطلبُ استحضار القيم الحضارية للمجتمع في أي توجه لبناء اقتصاد مجتمعي ناجح، الأمر الذي يتطلب من صناع القرار إجراءات اقتصاديَّة صادقة تجاه المجتمع، ونقله الى مرحلة تغير إيجابي تتشكل بموجبه قيم أخلاقية جيدة تتناسب مع عملية التحديث التي تحيط بالمجتمع الإنساني اليوم مع تزايد الاستعمال الواسع للوسائل الاتصالية الحديثة، وإعادة صياغتها عن طريق أساليب تنشئة اجتماعية حديثة تعزز قيم المواطنة وتبعث في النفس قيم الإبداع في ظل علاقة تبادلية بين الواجبات والحقوق ضمن عقد اجتماعي يتفق عليه بين المجتمع والسلطة، ما يجعل الطريق ممهّداً أمام إجراء تنمية بشرية، ابتداءً من تنمية المجتمعات المحلية صعوداً إلى المجتمع الكلي، فعندما يكون الإنسان واعياً وقادراً على التحكّم بأزماته الفردية، عندئذ سيكون متمكّناً من اتباع أساليب علمية وإجرائية في تجاوز مشكلاته وأزماته والإحاطة بها والسيطرة عليها، بإيجاد وسائل شعبية رادعة للفساد، وهذا بلا شك مرتبطٌ برغبة المجتمع وقدرته على الإمساك بزمام المبادرة في خلق بيئة صالحة تحكمها القيم الأخلاقية، فيكون للتنمية الاقتصادية حينذاك قدرتها على تغير معتقدات الإنسان الثقافية المعرقلة للتطور.
إنَّ الاقتصاد العراقي اليوم يمكنه الإفادة من المنطلقات النظرية في الفكر الخلدوني بقراءته قراءة معاصرة، تجعل أهداف أي تنمية أو تقدم اقتصادي تصب في مصلحة تعزيز القيم الأخلاقية والإنسانية، وهذا يتوقف على قدرة الحكومة في تفعيل برنامجها الحكومي الذي أعلنت عنه، لا سيما ما يخص الجانب الاقتصادي، فأي تطور اقتصادي لا يأخذ بنظر الاعتبار قيم وكرامة الإنسان، ستكون له عواقب وخيمة على القيم الإنسانية بكاملها.
إنَّ وضع خطة إجرائيَّة للقضاء على البطالة والفقر والأميَّة كفيلٌ بإنقاذ البلد من ولادة طبقة متطفلة تملك المال، ولا تملك الفكر الاقتصادي، ولا القيم
الأخلاقيَّة.
إنَّ المؤشرات المتوفرة عن العمل لبناء اقتصاد عراقي قوي يشوبه كثير من الغموض، لا سيما في ما يتصل بطرق تنفيذ المشاريع التي غالباً ما يعتريها كثيرٌ من الفساد على حساب مصلحة الإنسان الذي تزداد مشكلاته تعقيداً يوماً بعد آخر. وهو واقعٌ، فضلاً عن عوامله التنظيمية الداخلية الضعيفة يرتبط أيضاً بمسارات الاقتصاد العالمي الخاضع لسوق الطاقة الذي ينتابه المد والجزر، لا سيما أنَّ الاقتصاد العراقي ما زال اقتصاداً ريعياً يعتمد على النفط بشكل مطلق. وعليه لا يمكن الخروج من هذه الدائرة إلا عندما تتمكن الدولة من بناء علاقة متوازنة بين اقتصادها والقيم الأخلاقية، مؤسسة لنظام اقتصادي جديد قوامه استحضار الثروات الطبيعيَّة والعقول المفكرة والإرادة السياسية لنقل البلاد الى مرحلة الإنتاج الوطني، والتي بها يمكن أنْ يتحقق الرضا والإنقاذ.