رطوبةُ السرد ومركزيّةُ الحكاية

ثقافة 2019/07/19
...

محمّد صابر عبيد
تحدّث النقّاد العرب القدامى في التفاتة نقدية بالغة الذكاء والعمق والفهم وصلاحيّة الرؤية عمّا اصطلحوا عليه ((ماء الشعر))، وربما هو يعادل اليوم مصطلح ((الشعريّة))، في معاينة الصفة الأسلوبية المركزية التي تجعل من الكلام شعراً، وهو ما يفرّق عندهم بين ((الشعر)) و ((النظم))، فالشعر يجب أن يكون فيه ماء كي يسهُل تلقيه بوصف أنّ الماءَ وسطٌ يسمح بالتفاعل والتعاطي والتلاقي والتواصل، أمّا النظم الذي هو بلا ماء فلا يندرج عندهم في باب الشعر، وله عادة وظائف أخرى غير شعرية. يمكننا هنا أن نفيد من هذه الالتفاتة الذكية لنقول هنا بـ ((ماء النقد)) في السياق الوصفيّ نفسه نحو القول بشعرية النقد، وعلى النحو الذي نفرّق فيه بين ((النقد)) و ((الرصف النقديّ))، فالنقد هو الكلام الفنيّ العلميّ المشحون بالماء، والرصف النقديّ هو القول العلميّ شبه الفنيّ الخالي من الماء، وقد يخرج هذا الرصف إلى فوائد ذات طبيعة دراسية علمية لكنّه ليس من النقد في شيء البتة. وإذا ما توسّعنا أكثر فبوسعنا الحديث عن ((ماء الفنون)) كلّها أيضاً، إذ كلّ فنّ يخلو من الماء يكفّ عن كونه فناً، مقترباً في ذلك من النشاط العاديّ الذي يفتقر لشعرية الأداء والتشكيل والفعل والتأثير وقوة التواصل مع مجتمع التلقي، فالرسم والعمارة والسينما والموسيقى والمسرح وكلّ أنواع الفنون الجميلة لا يمكنها التعبير عن رؤيتها الفنية وفضائها الجماليّ من دون ماء، على النحو الذي يكون فيه الماء شرط جوهري للفن.
يصبح الانتقال إلى ((ماء السرد)) على هذا الأساس ضرورة فنية لا يمكن تغافلها أو تجاهلها أو استبعادها، لأنّ ماء السرد على هذا المستوى هو الأقرب إلى ماء الشعر، وربّما تساوى معه في درجة الأهمية والخطورة، وإذا ما شئنا فحص عناصر التشكيل السرديّ لنعرف أين يكمن ماء السرد فسنجد أنّ عنصر الحكاية هو العنصر المرشّح أكثر من غيره للكشف عن حضور الماء، لأنها العمود الفقريّ للسرد كما هو معروف، وبها تنهض عناصر السرد الأخرى بمعيّـها وعلى وفق قوّة حساسيّتها.
الحكاية في بيتها الأصيل مكتظّة بالماء وهي بلا أدنى شكّ العنصر التقليديّ الأول من شبكة عناصر التشكيل القصصيّ، وهي التي تزوّد بقيّة العناصر بما تحتاجه من ماء ضروريّ لتسهيل مهمتها في الوصول بالتشكيل إلى أرفع درجات فنيته وجماليته، وماء الحكاية من حيث الطبيعة والغزارة مرهونٌ بطرافتها وشعبيتها وقوّة تداولها وتأثيرها في المخيال الشعبيّ المتلقي، فضلاً على طبيعة من يتكفّل بروايتها وأسلوبية روايتها التي تقوم على الخبرة والممارسة والموهبة والقدرة على التلاعب بجمهور المتلقين.
    إنّ كميّة الماء في الحكاية لها حدود معيّنة، ومثلما لا يمكن الاستغناء عن مائها حتى تكون فاعلة ومنتجة في الميدان، فإنّ انسياح الماء وزيادته عن حاجة رطوبة الحكي يؤثّر سلباً بالتأكيد في وضع الحكاية نفسها وحساسية توصيلها وتأثيرها في مجتمع التلقّي، إذ الحكاية هنا هي أمّ العناصر السردية وحاميتها وروحها، ومن دونها تبدو العناصر جميعها وكأنها تعاني من يتم ما على النحو الذي يصعب معه القيام بعملها ضمن أداء سليم ومثاليّ، وبهذا تظلّ الحكاية عنصراً طاغياً وضاغطاً على مقدّرات العناصر الأخرى، وتظلّ هي مصدر الماء الوحيد الذي يغذّي العناصر الأخرى بحاجتها منه.
يعمل (الحكواتيّ) على مسرحة الحكاية، والمسرحة فعاليّة تنتجُ ماءً قد يفوق الحاجة حين يبالغ الحكواتيّ في عرضها، ولا تتنازل الحكاية في القصة عن جزء من مائها إلا لصالح التقانات الفنية والتشكيلية التي تأخذ من جرف الماء الكثير لكنها مع ذلك تظلّ مهيمنة، فالسرد التقليديّ حاول توزيع أدوار التشكيل القصصيّ بين الراوي والحكاية لكنّ موجّهات الحداثة تدخّلت في مكوّنات السرد ودفعتْ باتجاه غياب الحكاية بوصفها مفهوماً وحلولها في أطياف المروي، إذ أسهمت في تهشيم الحكاية بوصفها مركزاً يندرج في إطار تهشيم المركزيات وتفتيت المهيمنات فضلاً على غياب الإدهاش والمفارقة والشفوية والأداء المسرحي في رواية أحداث الحكاية. يعمل الحكواتيّ على نقل المكتوب إلى المحكي الممسرح فهو قارئ كلّي بمواصفات خاصّة (سلطة)، وهو في الوقت نفسه قارئ
وسيط وظيفيّ مهنيّ يتلاعب بـ (المحكي لهم) لغايات مهنيّة تسويقية تؤدي إلى إحلال الحكاية في وسط مجتمع التلقي وتفعيل مجتمع التلقي بها، بوساطة (الجمهور) الذي يسمع ويرى في خضمّ نوع من (التلقي السمعبصريّ) يمثّل أعلى درجات الانفعال والمشاركة الوجدانيّة.
الحداثة وقد قامت على الأسس والتقاليد والمنطق والمنهج وتعريف الأشياء وتحديدها انتهت إلى صورة الانتماء الكلّ للنصّ، ومن بعده الخطاب، وهو ما يُوجب في درجة رئيسة من درجات التحوّل مغادرة العفوية التي تعني على مستوى حضور العناصر مغادرة بيت الحكاية، وحرّكتْ عناصر سرديّة أخرى كي تأخذ دورها في تشكيل النصّ في غفلة من الحكاية بما يقلّل ابتداءً من مائيّة النصّ وسلاسة وصوله إلى جمهور التلقّي، وتحوّلت فكرة (الجمهور) المُصغي للمحكي الصوتيّ الفوريّ الممسرح إلى فكرة (القرّاء) وهم يحفرون في المقروء ولا يصغون إلا لصوت عقلهم القارئ وهو يغوص في تضاريس النصّ الصحراويّة.
النصّ هو بيت الحكاية القارّ وليس اللسان الراوي الذي ينفي الحضور النصيّ، إذ يتحوّل النصّ إلى لسان مكتوب ومدوّن على الورق بوصفه جسداً يضاهي اللسان الراوي وقد تحوّل إلى ذاكرة له، والنصيّة في جوهرها ممارسة علميّة تتقصّد تحويل السرد إلى نوع من العلم بما يمكن أن يوصف بعلمنة السرد، وعلم السرد وُلِدَ في أحضان الحداثة حيث الاكتفاء بأقلّ قدرٍ ممكنٍ وضروريّ من رطوبة السرد في مقابل التعويل على التقانات والاستغراق في متاهة التشكيل، إذ لا شكّ في أنّ براعة تفعيل الأدوات وقوة إدهاشها تأتي غالباً على حساب الرطوبة، ولعلّ صراع الرطوبة والتقانات هو صراع الحكاية والحداثة يشبه على نحوٍ ما صراع قصيدة النثر مع الشعر، وكلّما تضاعف هذا الصراع انعكس على إنتاج معادلة نادرة بين المرجع الحكائيّ العفويّ والسرد التشكيليّ المعلمن.