انفتحَ الوضع العراقي بكلّ تفصيلاته وعيوبه وشجونه بعد التغيير. فمهما تحدّثنا لا نستطيع أن نلمّ بالمأساة (والإلمام هو أدنى المعرفة) فضلاً عن الإحاطة بما حلّ بالإنسان العراقي على صعيد معرفته وثقافته وسلوكه وحالته النفسية ومزاجه، وكلّ ما له صلة بواقعه كإنسان، وبالعراقيين كمجتمع وبالعراق كبلد.
لا أحد يتخيّل حجم الدمار والانسحاق الفظيع الذي تعرّضت له الشخصية العراقية على مدار ربع قرن من العسكرة والقمع والحروب. تخيّل أن النظام كان يقتل الإنسان ويطلب من ذويه أن يُبدوا فرحهم بذلك، ويطلب من أمّه أحياناً أن تزغرد ابتهاجاً، ومن أبيه أن يدفع ثمن الطلقات. ربما يتصوّر البعض أنها مبالغة أن يتحوّل بعض الآباء مخبرين ضدّ أولادهم أو الأولاد ضدّ آبائهم، لكي ينتهي الإبلاغ إلى إعدام الابن أو الأب!
عرفتُ عائلة فقدت تسعة من ذويها شهداء، أما ما دون ذلك فهم كثير، وذوو الضحية والضحيتين ربما بلغوا المليون أو ازدادوا، من خلال الحروب المتتابعة والتعذيب والتصفيات، عدا الأمراض والحرمان وبؤس الحصار.
انحدر الذوق وتعطّلت المعرفة، وفقد العراقي إحساسه بالكرامة والحياة، ولم يعد يستشعر أية أهمية لوجوده وحياته، وهذا ما كان يبغيه النظام الساقط لكي يحوّل الإنسان إلى مجرد رقم، يقنع بالحدّ الأدنى من الطعام كمقوّم وحيد للحياة دون العلم والمعرفة والحرية والرفاه، فهذا كلّه ترف لا مكان له في عراق النظام الساقط. نجح النظام في تحويل البشر إلى كتل صمّاء يدفع بها في محارقه، ونزواته، ويجعلها مادّة في الداخل لترسيخ أمنه واستقراره، وإذا أحسنت شيئاً، فهو الزعيق بالشعارات والتمجيد عبر وسائل الدعاية بالقائد الأوحد، الذي تحوّل إلى مصدر كلّ شيء حتى الهواء الذي يتنفّسه الإنسان العراقي. كم كانت لغة هابطة مخاتلة سافلة أن تتحدّث دعاية النظام بانحطاط عن «مكرمة القائد» يقدّمها للعراقي عبر «دجاجة» في شهر رمضان مثلاً، وقس على هذه «المكارم»!
الغربة فجيعة لكن من طبيعتها أن تمنح المهاجر سعة في الحرية والاختيار ﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً﴾ (النساء: 100)، لكن ماذا يفعل من كان في سجن العراق الكبير؟ نحتاج إلى دروس ودورات توعية خاصّة لكي ندرك على مستوى الوعي الذهني فقط، قدر ما كان يعانيه العراقي في الداخل. وما عدا مشروع «الذاكرة العراقية» الذي تراءى لي عن بُعد قبل أن ينطفئ، لم أشهد أو أسمع أيّ مشروع له الحدّ الأدنى من الجدّية وشروط الوعي، للتعريف بما جرى على الإنسان العراقي في عصر القهر الصدامي ـ البعثي رغم مرور أكثر من عقد ونصف على التغيير، فضلاً عن التوثيق والتدوين واقتناص العبر!
أجل، في أخبار هذه الأيام هناك قرار بتدريس مادّة جرائم البعث في شطرٍ من الجامعات، وهي بادرة حسنة لولا أنها تصطدم بتطبيقات سيئة، مثل درس اللغة الكردية والثقافة القومية أيام زمان، وحتى التربية الدينية الآن، فلا نعرف أحداً تعلم الكردية من هذا الدرس، أو توفر على الحسّ الوطني من خلال الثقافة القومية، فضلاً عن أن يكون متديناً بالمعنى السلوكي، من خلال درس التربية الدينية!