الولايات المتحدة تتخلى عن العراق، لماذا؟

الثانية والثالثة 2019/07/21
...

ابراهيم العبادي
 

بهدوء مر خبر خفض الولايات المتحدة لعدد دبلوماسييها العاملين في بغداد ، لم يبق من الدبلوماسيين الامريكان الفاعلين في اكبر سفارة امريكية في العالم سوى اقل من (15) دبلوماسيا ، سيعتبر الكثير من العراقيين هذا القرار اعترافا امريكيا بالفشل المستمر ، لاسيما ان واشنطن لم تعد تفكر بفتح قنصليتها المهمة في البصرة منذ اغلاقها في ايلول من عام 2018 بسبب قصف وتهديدات امنية ، فالولايات المتحدة تجر اذيال الخيبة منذ بدأ التوتر الامريكي الايراني يتصاعد في الساحات الامامية والخلفية ،كان العراق ومايزال الساحة الاهم لهذا الصراع واثمن الساحات لكلا الطرفين ،وعندما عجزت الولايات المتحدة عن تمكين الاقرب الى رؤيتها من الفوز بالمناصب الكبرى الاساسية في تشكيلة الحكومة العراقية ،عد ذلك تراجعا واضحا للنفوذ الامريكي  وخسارة سياسية كبيرة يقابلها تقدم  حاسم للدور الايراني ، ولان صراع الطرفين الامريكي والايراني يتركز في بعديه الجيوسياسي والجيوستراتيجي على مفاتيح كبرى للفوز بنتائج هذه المنازلة ، كان اهم هذه المفاتيح يقع في قبضة ايرانية واضحة حتمت خفضا دبلوماسيا امريكيا بما يعني تراجعا واضحا واقرارا بتضاؤل الاهتمام والحضور الامريكي في 
العراق .
تحاول وزارة الخارجية ان تبعد عن نفسها تهمة التخلي عن العراق بادعاء المراجعة الدورية للتهديدات وضمان امن العاملين في سفارتها وقنصلياتها ،لكن العارفين ببواطن الامور يدركون ان المؤشرات باتت واضحة عن مقدار الحرج الامريكي في العراق ،فقد بات هذا البلد يشكل خاصرة رخوة في الستراتيجية الامريكية في المنطقة ،وان تعزيز الوجود العسكري فيه ليس لاهميته البالغة في هذه الستراتيجية بل لكونه خرج عن سلم الاولويات ولغرض المحافظة على الوجود الامريكي على المدى البعيد ،  ولولا الالتزام الامريكي باستمرار التصدي لداعش ، لجاء قرار الانسحاب العسكري مماثلا لقرار الانسحاب من سوريا ،امريكا تشعر انها في ورطة حقيقية بالعراق وعلاقاتها ببغداد هي الاضعف حاليا منذ عام 2003 كما يقول مصدر دبلوماسي مطلع ،وازمة الثقة بين بغداد وواشنطن تتصاعد ولم تعد امريكا مسموعة ومؤثرة حتى في القضايا التي تقلقها  ،فمابين التزاماتها الضخمة وطموحاتها وامالها الكبيرة ،لايبدو ان اصدقاء امريكا وحلفاءها قادرون على تغيير جدي في المواقف العراقية من الازمة المتصاعدة في المنطقة ، ويشعر الامريكان انهم لايجنون مكاسب جدية في مقابل التزاماتهم العسكرية وانفاقهم الكبير  ،بل ان القوى المناوئة لهم تمارس ضغطا كبيرا وتهديدات متواصلة تحرجهم امام حلفائهم الاقليميين ، وهناك من يسعى لكي يكون بديلا عن العراق في المنظور الستراتيجي  ،خصوصا مع الاقرار المتزايد بان ايران نجحت في اختراق جبهة اصدقاء امريكا واستطاعت تدوير مواقفهم لصالحها ووضعتهم على سكة التكسب من المشاركة في السلطة العراقية. 
امريكا في وضع غير مريح في العراق ،وهذا يكفي لدفع الادارة الامريكية ومراكز الضغط والتفكير لحساب جدوى هذا الالتزام المكلف ،بما سيؤول الى التعامل الجاف والضغط المتزايد باتجاه تخيير الحكومة العراقية في العديد من السياسات ،اما ان يكون العراق مع امريكا ،  او ان يتحمل سلسلة عقوبات وتحذيرات ومجازفات ،كان اخرها وضع جماعة من الشخصيات العراقية على لائحة العقوبات ذات الصلة بالصراع الامريكي الايراني ،  وستصدر قوائم جديدة كما يتوقع المطلعون في سياق الضغط السياسي.
ان الالغاء المتكرر لزيارة رئيس الوزراء العراقي الى واشنطن ، ورسائل التحذير الجافة تنذر بخريف جديد للعلاقة بين واشنطن وبغداد ،وهو ماسيؤدي الى اهتزاز معادلة الاستقرار السياسي والامني في العراق ،اذ ان هذه المعادلة تعتمد على توافق ضمني ايراني - امريكي واي اهتزاز في هذا التوافق والتعهد الضمني سيعني رجحان كفة فريق على اخر ،  واضطراباً سياسياً ينتهي الى تصدع امني وركود اقتصادي ،يأتي هذا التهديد في وقت  تحتاج فيه حكومة السيد عبدالمهدي الى فترة هدوء واستقرار لتتفرغ لالاف المشكلات ذات الطبيعة المهددة للاستقرار المجتمعي والسياسي ، قدر العراق في هذه اللحظة التاريخية  ان يكون محطة التوازن الكبرى في منطقة لاتعرف الاتزان والاعتدال  ،ومع تخلخل معادلة التوازن هذه ،يكون العراق قد انخرط تدريجيا في معركة الصراع بين طرف اقليمي واخر دولي من دون ان يكون له في ذلك   قرار او ارادة واعية ،وسيخسر الكثير مع توالي تدخلات وضغوط المتصارعين عليه وفي داخله.