ياسين النصير
تغتني الكلمة في النص، إذا استعرت لها صور جذورها المحلية، وتبقى فقيرة شاحبة إذا ابقيتها ضمن حدودها اللغوية، هذا ما يعمل عليه الإبداع، بالمعنى الذي يتجاوز المؤلف فيه انتماء الكلمة القاموسي، ويحيلها إلى إنتمائها الشعبي المحلي. لا توجد كلمة دون جذرين، قبل أن يتفرع جذعها إلى شعاب ومسارات ومراجع: جذرها الأول، هو الكلام، وجذرها الثاني هو اللغة، أو اللسان، والجذر الثاني ياتي بعد تنقيتها من الشوائب، فالكلام تتبعه الحالات المنفلتة من قواعدها، بينما اللغة تقلص امتدادت الكلمة وتقولبها في قواعد، كي تحيلها لاحقًا على شعابها ودلالاتها. فالأصل في الكلمة قيعانها الشعبية، تلك المراح التي تغلغلت بها لتستقر بعد أجيال من الممارسة على صيغة شعبية، نراها ونلمس ذؤابنها في كل ميدان تشتغل فيه.
جذبتني مفردتان قالهما ابولينير في إحدى قصائده”
“وأنت أيتها الأهداب القصبات التي تتمرَّى في ماء عينيها العميق النمير.
القصبات الكاتمات الأكثر بلاغة من المفكرين البشريين، أيتها الأهداب المفكرة المنحنية فوق هُوى”
العمق الميثولوجي للمفردة
يتحدث جاك بريفير في هذين البيتين بما يكفي لشرح العلاقة بين القصب والأهداب، لرسم صورة للأهداب الأنثوية بصفتها موضوعا للحب. وكناية عن المرأة، وتقيد القصبة بصفتين (كاتمات، مفكرة).ويستعير بريفير صورة القصبة من خلال تلميح أدبي وآخر أسطوري. هكذا يتغلغل النقد ليكشف العمق المثيولوجي والحياتي لأية مفردة تأتي في النص بقصدية أن تكون جزءا ثريا من التأليف.
فالتأليف ليس تجميع كلمات وصور اعتباطية، بل يخضع لمنهجية متغلغلة في اللاوعي المعرفي لابعادها وصورها. وأنا على يقين لو أن جاك بريفير عاش في أهوار العراق، ورأى أهداب نسائها الجميلات، على عيونهن الخضراء والشهلاء، بجوار قصباء البردي وعناجرالقصب، لاغنى تحليلة للبيتين بصور محلية لا اعتقد أنها توجد في ثقافة أخرى. تلك هي وحدانية الكلمة التي تعبَّر عن وحدانية الوجود.
فالمعروف أن القصبة في أهوارنا تنمو مفردة، لا قصبة أخرى تنمو من الجذر نفسه، فبذرتها ثنائية، ولذلك يطلقون على الطفل الوحيد لأبويه “عنجرة”، بمعنى أنه وحيد أبويه، على العكس من قصباء البردي التي تنثر بذورها في فضاء واسع، فتشتبك لتخرج شتلات البردي مجتمعة في باقة تنتمي لجذر واحد، أما بذور القصب فلا تنمو إلا فرادى. هذه معلومة معايشة، وليست معلومة تحليل علمي للقصب.
وإذا جئنا للأهداب، نجد أن شعرة الهدب تنمو هي الأخرى مفردة، وليس من جذر مشترك مع غيرها، كل شعرة لها جذرها المستقل، عندما تقتلع منه يعود الجذر بانتاجها ثانية، وتبقى الجمالية متعلقة بالطول واللون، وهو ما يغني الصورة خيالًا لاحتواء النظرة المظللة بالأهداب، كما لو أن ليلًا مضيئًا يقتنص تلك الأشعة المتسربة من بين قصبات/ أهداب الهور، لتنعكس على سطح الماء، غائرة بضوئها الى الأعماق، مضيئة قيعان الأهوار، كاشفة عن المدى المرئي في الماء. هو الحب، الذي يعيد صياغة أشياء العالم بترنيمة مشتركة، تكون جذورها مفردة، فالصورة الأعم للجمال تلك التي لا يشترك فيها إلا من يشابهها.
لو استعار جاك بريفير النخلة للأهداب ، لفسدت الصورة، ولقل جمالها، بالرغم من أن النخلة مثمرة. ولها سعفات ذوائب وأهداب، لا تستعير الكلية للإجزء، فلا يستعار المفرد إلا للمفرد، والكل إلا للكل، وهذه صورة للاستعارة قد تبدو غريبة عن الصور التي ألفناها، والتي نقرأ عنها، أما مجموع الأهداب، ومجموع القصباء، فالاستعارة بينهما واردة، لأن جذر الاستعارة تمت بين مفرديتهما أولا. لذا يمكن استعارة قصباء البردي، للنخيل، كلاهما يوَّلد ما يشابهه، ولكن لن تكون استعارة المشحوف للسفينة، ولا الزورق الآلي للبلم العشاري، حتى وأن كان الماء أرضية مشتركة بينهما، كل استعارة تبنى على جذرها المفرد المشترك الدلالة أولًا، ومن ثم يجري توسيعها. وبدون ذلك يختل ميزان الصورة المستعارة. فعندما تقول البيت مالًا، تتوارد استعارة الإدخار بين الأثنين، التي تتوسع دلالتهما فتصبح الحجارة الواحدة في البيت، قطعة النقود الواحدة المدخرة، وعندما تقول السفر معرفة، يتبادرإلى ذهنك العلاقة بين الخطوة (السفر) والحرف، (المعرفة)، كلاهما ينمو من المفردة الجذر.
صور متراكمة
هل يصرف أديبنا جهدا معرفيا ليوطن مفردته هذا الأفق المعرفي، بحيث عندما تقرأ له قصيدة أو رواية، تشعر أن وراءها عقل ينظم ثقافتها، ويعمّق وجودها، ويجعلها مشبعة بثقافة شعوب أخرى؟، فالصور المتراكمة في حياتنا اليومية ليست اعتباطية الوجود، إنَّما هي مشتركة الجذور، وأن اختلفت الثقافات وتنوعت القراءات لها. يقرأ جاك بريفير صورة شعرية لابولينير، فيجد فيها ما يجمع أهدأب العين وقصباء الماء، فالماء جذر في الأثنين، كلاهما يضيء وينبت.
فأجد أنا العراقي فيهما صورة لحياة العشق في أهوارنا، ، وطرائق الحب النامية بين الماء والقصباء والنساء. وكم شاعر شعبي تغزّل بنساء الأهوار، فجمع أهداب عينيها بقصباء أهوارها. المحكي في المحلية أغنى من الكلمة القاموسية.
فالصورة المشبعة بالمحلية عالمية، وإن كتبت بحروف لم تقرأ. ولك أن تعيد تصورك عن العالم عبر الكلام، كلما كانت الكلمة مشحونة بمحليتها أغتنت صورها، وكلما كانت الكلمة قاموسية كتبت فصيحة، وقرئت شعبية، فالابداع يتشبَّع بتحولات الكلمة محليًا، وعندما تقرأ من شعوب أخرى ستكون منتمية لثقافتها كلها.
هكذا أصبحت ألف ليلة وليلة عربيَّة، بعد أن كان جذرها هنديا وفارسيا، فالاستعارة لجذرها العالمي يستدعي جذرها المحلي، أما أغصانها وثمارها وأفكارها ورؤاها المستقبلية.
فهي نتاج تزاوج محلياتها، عندئذ جذورها الإنسانية نامية في ثقافات وبيئات كل الشعوب.