سعد محمد الكعبي
يـعرّف علماء النفس الكذب بأنه “تزويرٌ متعمدٌ بقصد الخداع لتحقيق مصلحة معينة أو تجنباً للعقاب والتعنيف”، فيما يرى آخرون انه يعبر عن آلية دفاعيَّة عند الأطفال، بينما يشير الى اضطراب سلوكي عند الكبار. أغلب النظريات العلميَّة تولي موضوع الكذب عند الأطفال أهمية كبيرة عنه عند بقية أفراد المجتمع لما يشكله هذا السلوك من ركيزة حياتيَّة تبنى عليها شخصيته وأفكاره.
قصصٌ خياليَّة
تقول هناء ثائر: “كان ابني غالباً ما يتحدث عن زملائه في الروضة وينسج قصصاً غاية في الدقة والحبكة وكنت دائماً أصدقه ظناً مني أنَّ الأطفال لا يكذبون لكنْ مع مرور الوقت ودخوله المرحلة الابتدائيَّة بدأت قصصه تأخذ منحى آخر, فأحياناً يخبرني أنَّ المدرس ضربه من دون سبب ومرة أخرى يقول إنَّ زميله سرق نقوده وأخرى إنَّ مدرسته في إجازة حتى وصل الأمر لإخفائه شهادته المدرسيَّة بحجة أنَّ زميلاً له قد مزقها”.
وتضيف “بدأت أشك في سلوكه وخاصة بعد ادعائه الكثير من الأمور تخص إخوته وأخواته في البيت, المهم عندما ذهبت فاجأني مدرسه بأنه طالبٌ مشاغبٌ كثيرُ الكذب ومفتعلٌ للمشاكل وأنَّ إدارة المدرسة أرسلت عدة خطابات بيده الى ولي أمره من دون حضور أحد منهم, انعكس كذبه على مستواه الدراسي ورسب في أغلبية المواد, عندها عرفت أنَّ سكوتي عن قصصه الخيالية في الروضة وعدم معالجة هذه الحالة منذ الصغر جعلت الكذب عادة متلازمة مع شخصيته”.
تربية غير صحيحة
يعرف الدكتور مخلد الفضلي (الطبيب نفسي في مستشفى ابن رشد التدريبي للطب النفسي) الكذب بأنه “إحساسٌ مزمنٌ يضعف الثقة بالنفس والخوف, فيكذب الإنسان ظناً منه أنَّه يستطيع إرضاء الآخرين بكذبه, فهو حالة مكتسبة غالباً وليست وراثيَّة, وعند الطفل رد فعل لتربية غير صحيحة من الأبوين، وقد يلجأ له نتيجة الحرمان المستمر، الأمر الذي يولد حالة من العدوانيَّة في المستقبل سببها عدم رضاه عن كذبه، فتترسب في عقله الباطن وتنتج عنها سلوكيات غير سوية
للتنفيس”.
ويؤكد الفضلي “كما أنَّ ذكاء الطفل يكون سبباً نادراً لممارسة الكذب وهي حالات قليلة جداً فيلجأ لاستخدامه لصالحه أو للتباهي أمام نفسه بأنه أذكى من الآخرين ويكون عندها راضياً عما يفعل من دون الشعور بالذنب وهذا بحد ذاته خطير جداً على تكوينه النفسي”.
عادة مكتسبة
التبريرات المستمرة من قبل الأبوين أو البيئة المحيطة بالطفل أحد أسباب اكتسابه هذه العادة، وهنا يبدأ التشويش يأخذ طريقه الى عقله بين ما يراه وما قيل له إنَّ الكذب عادة سيئة يجب تجنبها.
فعندما يرن جرس المنزل أو الهاتف يركض الطفل ببراءته للرد وعندما يسأل المتصل عن والده يشير إليه والده بأنه غير موجود، من هنا تكون الخطوة الأولى في التربية السلبيَّة التسافلية للطفل, فضلاً عمَّا يتعلمه خلال لعبه مع أقرانه في الشارع, إذ ستتولد داخله عقله الصغير معارك فكريَّة بين ما يقال له وما يراه أمامه.
فما ان يعرف الأطفال أنهم لن يعاقبوا على سلوكياتهم سيقولون الحقيقة, وعندما يعاقبون تظهر لديهم المخاوف من اكتشاف الحقيقة في ما بعد، ما يدفعهم إلى الإبداع في الكذب، وهو ما يمكن أنْ يتحول إلى حالة مرضيَّة وخاصة عند الوصول الى المراهقة حسب تقارير طبية ألمانيَّة.
أنواعٌ عديدة
الدكتور الفضلي يصنف الكذب الى أنواع عدة منها الخيالي, إذ يظهر هذا النوع عند الأطفال الذين يتمتعون بالخيال الخصب، وسرعة البديهيَّة والقدرة على التعبير واختلاق القصص والأحداث الخياليَّة، وهذا يدل على مستوى الذكاء المرتفع, وهناك من يطلق عليه بالكذب الالتباسي, ويقصد به الالتباس بين الحقيقة والخيال أي من الممكن أنْ يسمع الطفل قصَّة خرافيّة ويقوم بتصديقها، أو قصة واقعيَّة أعجبته فيقوم بمعايشتها بخياله، ويُعيد سردها مع تغيير الشخصيات وبعض الأحداث.. هذا النوع من الكذب مرتبطٌ بالقدرات العقليّة للطفل، وعادة ما يزول عند
الكبر.
كما أنَّ هناك نوعاً آخر يستخدمه الطفل للفت الانتباه وهو الكذب الادّعائي وسببه الرئيس هو تدني ثقة الطفل بنفسه، والشّعور بالنّقص نتيجة التربية غير السليمة، وسوء الأوضاع المعيشيَّة، والشعور بالنقص أو الحرمان، ما يؤدي بالطفل إلى ادّعائه بأنه يمتلك ألعاباً كثيرة في غرفته أو ذهابه في رحلات مختلفة ليَظهر أمام أصدقائه بأنه
الأفضل.
وأخيراً لدينا الكذب الوقائي وهو لجوء الطفل الى الكذب نتيجة خوفه من العقاب أو التوبيخ، خصوصاً إذا كانت شدة العقاب لا تتناسب مع ما يتطلبه الموقف، فيكذب الطفل للدفاع عن نفسه وحمايتها.
حلولٌ ومعالجات
يؤكد الدكتور مخلد الفضلي أنَّ “الكذب أحياناً قد يصبح عادة عند بعض الأطفال، الأمر الذي يسبب مشكلة لا يستهان بها عند الآباء والأمهات الذين يجدون صعوبة بالغة في معالجتها وإيجاد حلول جذريَّة لها منها أنْ يتعود الطفل على المصارحة مع الوالدين ومحاولة فهم الأسباب التي دعته للكذب من دون تعنيف أو إهانة، فضلا عن ضرورة ترسيخ المفاهيم الأخلاقية والدينية عنده منذ الصغر، وضرورة أنْ يناقش الآباء مع الأطفال محاذير الكذب السلبيَّة وتأثيرها خلال مراحل نموه النفسي والجسدي، كما ينبغي الابتعاد عن تحقير الطفل والسخريَّة منه، أو التشهير به أمام إخوته لأنَّ ذلك يؤدي الى عدم ثقته بنفسه وبالتالي يلجأ الى هذه العادة للتعويض عما يواجهه ظناً منه أنَّ فعله هذا سيعطيه جرعة من الثقة والاحترام, وفي حال عجز الوالدان عن إيجاد حل مناسب لطفلهما عليهما الرجوع الى المختصين في علم النفس لتجنب استفحالها وتطورها”.