(معزوفة) طهمازي بين التاريخ والحاضر (2ــ 2)

ثقافة 2019/08/03
...

عبدالزهرة زكي
تتصدر قصيدة عبدالرحمن طهمازي الطويلة (المعزوفة) هذا التعبير المستعار من المفكر الانكليزي روبن جورج كولينجوود، توفي عام 1943 وهو فيلسوف وعالم آثار ومؤرخ ومشتغل في مبادئ الفن. يقول التصدير:” التاريخ هو الحاضر”. وهو تعبير مأخوذ من كتاب (فكرة التاريخ) لكولينجوود، إنه كتاب تم جمعه من آثار الكاتب بعد وفاته من قبل أحد تلامذته، وحظي من القيمة بما لم يحظ به أي مؤلَّف سابق للمؤلِّف، حتى إنه بات مصدر إلهام رئيسي لفلسفة التاريخ في العالم الناطق باللغة الإنجليزية.
هذا التصدير مهم في سياق قصيدة طهمازي، نحن في حضرة شاعر، وكاتب، يعي تماماً ما يفعله في الشعر. وليس في هذا تعريضٌ بشعرية الشاعر إذا ركنّا للتصور المعروف الذي يرى أن (البراءة) هي جوهر الوجود في الشعر، الوجود في الشعر شيء بينما العمل به وفيه شيء آخر. جانب أساس من شعر عبدالرحمن طهمازي يعمل في ما يمكن تسميته بـ (الوجدان العقلي)، والوجدان العقلي هو الجانب الحي، اليقظ والمستتر، من عمل العقل. تاريخ الشعر لا يتوفر إلا على القليل مما يفصح عن قيمة عمل الوجدان العقلي في الشعر. إنه وجدان ينبغي أن يظفر بأكبر قدر من (البراءة) ليتخلص بها من مضار العمل العقلي في الشعر، وهذه معادلة معقدة كثيراً ما يخفق الشعراء بضبطها، ونادرا ما ينجح الشعر بإتقانها.
يضع عبدالرحمن طهمازي تعبير كولينجوود فيمهِّد به لقارئة (الكشف) عن استراتيجية بناء هذا العمل الشعري الطويل والمعقد (المعزوفة)، حيث البناء مركب من طبقات لغوية وتاريخية ومعرفية. لا أتوقع أن الشاعر يكتفي بهذا الدور الإرشادي للتعبير المستعار، من الممكن (تسريب) هذا الدليل (guide) بمناسبة أخرى، غير مناسبة العمل الشعري نفسه، كما فعل إليوت في (الأرض الخراب)، لكن تعبير كولينجوود يساعد أيضاً في إنشاء فكرة عمل (المعزوفة) حتى إنه يستحيل إلى بعض عضوي من العمل الشعري القائم على فكرة تقابل، بصيغة ما، بين التاريخ والحاضر.
(التاريخ هو الحاضر) بموجب المفكر الانكليزي، لكن في (المعزوفة) يستحيل الحاضر نفسه إلى تاريخ ليكون (الحاضر هو التاريخ) بموجب الشاعر العراقي، بموجب الشاعر فإن الحاضر هو ما يستدعي التاريخ ويمتثل له:
ــ فبالله عليك يا رفيقي انظر
ما تحتنا أهو بساط سليمان أم حمار نصر الدين. (المعزوفة) تكاد عناصر الحاضر في المعزوفة تتوارى أشباحاً، ربما فاعلة لكنها متوارية، فاسحة المجال لعناصر الماضي (التاريخ) لتستعيد دورتها في حياة الحاضر وتستبد به.
في هذه القصيدة يواصل طهمازي التعبير (شعرياً) عن افتتانه بالتاريخ والخشية منه.
في أثناء قراءتي هذا العمل والتخطيط للكتابة عنه وجدتني أعود فأبحث عن موقع النص ما بين نصوص الشاعر الأخرى، عن موضع الحلقة في السلسلة، الخرزة في المسبحة. في غمرة هذا البحث وقفت عند نص آخر يضارع بطوله وتعقيده هذا النص (المعزوفة)، كان ذلك النص هو (أبواب هائمة) المنشور في موقع إلكتروني (الأنطولوجيا/أنطولوجيا السرد العربي) بتاريخ قريب أيضاً في 10 آذار 2019.(أبواب هائمة) هو أيضا يتصدره تنصيص مأخوذ، ولكن هذه المرة من التاريخ نفسه، من الحلاج. يقول تعبير الحلاج:” بقيّة القصة مع القصّاص”.وقفت عند مدخل هذه الأبواب الهائمة، إنه مدخل يبدأ بما يقرب من صيغة اعتذار:
ـــ ساءني أن أتأخَر في الانضمام اليكم ايَها
الباحثون عن الباب الخلفي للطبيعة
وقد احسستُ بغموض مؤكَّد انّ جهلي يكنز من
المجاهيل ما ينوء به حملي. لم أستطع
التخفّف من ذلك الاّ بفضل معرفتكم التي تتواطأ
معي بين الحين والحين فنحن نقوم باشتباكات قصيرة مع المصير نخرج منها لا غالب ولا مغلوب. هذا اعتذار لافت، جدير بالوقف عنده بما يقتضيه. إنه صيغة تقترب، إنما بلغة حديثة، من صيغ الاعتذار والرجاء التي يبديها زائرو المزارات. ربما أوحى لي حضور الحلاج في استهلال النص بهذا التصوّر وهذه المقاربة ما بين اعتذارين. لكن النص في مساره العام هو اندماج وتجاور ما بين ماض وحاضر، إنما بوشائج انطولوجية، بخلاف ما هو عليه الحال في نص (المعزوفة) حيث السياسة هنا هي الطاغية.لكن (أبواب هائمة) لا تنأى كثيراً عن السياسة، كل شيء هو باب هائم يفضي إلى عواهن السياسة وإن لم يردها.
ما يفعله طهمازي في هذا النص، كما في ذاك، أنه يقدم وجهين للتقارب ما بين التاريخ والحاضر؛ مرة يكونان فيها متضادين متنافرين متخاصمين، وأخرى يكون فيها التاريخ مرشداً ومقوِّما وناصحاً. كلا الحالين عبء. الطبيعة البشرية لا تحتمل الوجود المتخاصم، كما لا تطيق النصح. برغم كل هذا نظل بشراً يدفع بنا خوفنا إلى استعادة الخبرات، الخبرة لا المغامرة بالتجربة والتورط بها. إنها مشكلة حضور التاريخ في الحاضر.سأختم بالعودة إلى روبن جورج كولينجوود، إلى كتابه (فكرة التاريخ). في هذا الكتاب، وقد جمع من مصادر مختلفة بعد موت مؤلفه، وبهذا فهو بطبيعته ذاتها عمل من أعمال التاريخ، في (فكرة التاريخ) يسعى المؤلف إلى الاقتراب من التاريخ إنما من (باب هائم) آخر معاكس، من باب الحاضر. يصنف دارسو كولينجوود على أنه” ميّز التاريخ عن العلوم الطبيعية لأن اهتمامات هذين الفرعين مختلفة: العلوم الطبيعية تهتم بالعالم المادي بينما التاريخ، في الاستخدام الأكثر شيوعًا ، يهتم بالعلوم الاجتماعية والشؤون الإنسانية”، وبهذا فهم يرون أن المفكر الانكليزي يشير إلى اختلاف جوهري بين معرفة الأشياء في الحاضر (أو في العلوم الطبيعية) ومعرفة التاريخ. يمكن ملاحظة الأشياء “الحقيقية” ، لأنها موجودة أو لها جوهر في الوقت الحالي. بينما عمليات التفكير الداخلية للأشخاص التاريخيين لا يمكن إدراكها بالحواس المادية ولا يمكن ملاحظة الأحداث التاريخية السابقة بشكل مباشر. يجب أن يكون التاريخ مختلفاً من الناحية المنهجية عن العلوم
 الطبيعية.
 التاريخ، كونه دراسة للعقل البشري، يهتم بأفكار ودوافع الفاعلين في التاريخ. لذلك يقترح كولينجوود على المؤرخ أن “يعيد بناء” التاريخ من خلال استخدام “الخيال التاريخي” من أجل “إعادة تفعيل” عمليات التفكير التاريخية للأشخاص بناءً على معلومات وأدلة من مصادر تاريخية. يتحدث كولينجوود في فكرة التاريخ عن هذا المثال:” في لحظة ، كتجربة حقيقية خاصة، لا شك في أن حجة أفلاطون قد نشأت من مناقشة من نوع ما، على الرغم من أنني لا أعرف ما كانت عليه، وكنت على صلة وثيقة بمثل هذا النقاش. فقط كنت أقرأ حجته، لكن أفهمها، أتابعها في ذهني من خلال إعادة مناقشتها مع نفسي، عملية الجدال التي أذهب إليها ليست عملية تشبه أفلاطون، إنها في الواقع أفلاطون ، بقدر ما أفهمه 
بحق”.طبعاً عمل طهمازي هو عمل شعري، بينما عمل كوليجوود عمل علمي، يؤمن كوليجوود أن التاريخ علم. هاتان طبيعتان مختلفتان في وسائلها وأهدافهما، لكن الشعر يظل في جانب أساس منه جزءاً حياً من التاريخ، في الأقل المهم، التاريخ الروحي للبشرية 
والإنسان.