ثلاثة دواوين متجاورة لثلاث تجارب مختلفة

ثقافة 2019/08/17
...

عبدالزهرة زكي
أكثر من عشرة دواوين شعرية صدرت خلال العامين الأخيرين لشعراء من مختلف الأجيال الشعرية العراقية تؤكد بمعظمها حيوية الشعر وقدرة الشعراء على اجتراح اهتمامات استثنائية، بالتفكير الشعري وطرائق التعبير عن هذا التفكير.
أتناول بمقال اليوم ثلاثة دواوين جديدة، هي دواوين أولى لمؤلفيها، وهم شعراء من الجيل الأحدث في العراق، وقد صدرت جميعها مؤخراً عن دار الرافدين.
صدور هذه الدواوين الثلاثة (التحليل النفسي للوردة/ وائل السلطان، أدخل بيتي مثل لص/ علي ابراهيم الياسري، 144 متراً مربعاً/ إيهاب شغيدل) مناسَبة لتأكيد حيوية الشعر والشعراء العراقيين وذلك لتميز كل من الدواوين عن سواه، تقنياً وتعبيرياً وثيمياً، حتى وإن اختلفت قيمة وطرائق هذا التميّز من ديوان إلى آخر، ولعلَّ هذا الاختلاف يقدّم تأكيداً مضافاً على أهمية الاعتناء بالهوية الشخصية لكل شاعر. إنها هويات تتشكل بموجب قدرة الشاعر، أي شاعر، على أن يحظى بدرجة خاصة لصوته وإن ارتفع هذا الصوت بما هو عام ومشاع من مشكلات وتحديات واهتمامات تشكل موضوعات للشعر، فالشعر هو الكيفية التي يكون عليها شعراً وليس حصراً ماذا يقول وعمّ يعبّر.
• التحليل النفسي للوردة
المفارقة اللافتة لعنوان هذا الديوان هي بعضٌ عضوي من طبيعة اهتمامات نصوص الديوان، ومن لغة وموضوعات هذه النصوص التي تشكل (الوردة) فيها حضوراً يكاد يكون مهيمناً. الرقة الرومانسية المتوقعة مع الحضور الكثيف للورد والطبيعة تتداخل هنا، في نصوص الديوان، مع تفاصيل ويوميات خشنة بواقعيتها. الطبيعة الغنائية لنصوص هذا الديوان تتواصل بأكثر من وشيجة مع تجارب الشعر العراقي الجديد، مع كينونتها المعقدة ما بين (التفعيلة) و(التحرر منها)، وما يستجلبه هذا التقيد والتحرر من تأثير وأثر شعريين. إنها نصوص، بخلاف ما في الديوانين الآخرين اللذين سنقف عندهما في هذا المقال، تتخفف إلى حد ما من السرد الشعري لصالح التعبير الغالب بصوت المتكلم في القصيدة وانفعالاته ومشاهداته وعن التوجه بالخطاب إلى استخدام أسلوب النداء.
يمكن مقاربة هذا الديوان على أنه ديوان بقصائد حب، إنه ديوان لشاعر شاب. كثير من النصوص تأتي بصيغة الخطاب المتجه للأنثى، يُستهلّ الديوان بقصيدة (روح الوردة الهادئة)، وهي قصيدة تتحرك، في مخاطبة الأنثى، ما بين تلك الروح الهادئة للوردة حتى (ريش أغنيات تتلعثم في فم الحرب). وما بين الحالين ينشغل التعبير الشعري بمشاهدات وتخيلات ووقائع تترادف بصفاء داخلي يحرص الشاعر على تماسكه. ولعل من امتيازات نصوص وائل السلطان في ديوانه الأول قدرته على المحافظة على التوازن التعبيري، على اللغة التي تتنوع فتتكثف بانسجامها.
في بدايات كثيرة تأتي التجارب المبكرة في الشعر بقليل من الاكتراث باللغة، عادةً ما تستدرج اللغةُ الشاعرَ، وبالأخص حينما يكون شاباً، وذلك بمقتضى قوة وهيمنة الموضوع، وبهذا يتضارب التعبير واللغة في الديوان الواحد، لكن في (التحليل النفسي للوردة) تؤخذ القراءة بتوازن تعبيري لا ينفرط بميوعة عاطفية حين يكون بصدد الحب ولا يتحطم بقسوة التفصيل اليومي الحاد كلما كان يمرّ بوقائع هذه التفاصيل وقد تضمّخت بدخان الحرب والحياة في ظل الحرب.
وائل السلطان شاعر يجيد الإصغاء لأعماقه ولصدى صوت العالم فيها.
• أدخل بيتي مثل لص
ديوان علي إبراهيم الياسري (أدخل بيتي مثل لص) هو أيضاً صدر بعنوان لافت بمفارقته التعبيرية. لكنه، وبخلاف عنوان وائل السلطان المعني بالموضوع (الخارج)، يظل عنواناً ينشغل بالتعبير عن الذات. وهذا تباين يفصح بعد ذلك عن اختلاف ليس فقط في طبيعة الثيمات التي يعنى بها الشاعران وإنما أيضاً في الكيفية التي يقف فيها كل منهما لمقاربة اهتماماته، وبعد ذلك سنرى أيضاً اختلاف إيهاب شغيدل عن كليهما.
واقعاً تتوارى الذات في نصوص علي الياسري خلف طبقات كثيرة من التفاصيل والعلاقات التي تشكّل ما بينها أواصر الموضوعات الشعرية للنصوص، تتوارى الذات فلا تظهر إلا بقدر ما تتبدى من خلال العالم المحيط (الموضوع). 
إن النبرة العالية لضمير المتكلم في هذا الديوان، وبدءاً من عنوانه، هي مظهر موارب تتبدى معه الذات، بمحاولات نصية مستمرة ومتغيرة، في سعي لجعل كل شيء يعبر عن نفسه وعلاقاته بما حواليه. لذلك يكتظ أي نص من نصوص الياسري، بعضها الطويل نسبياً بشكل خاص، بعناصر كثيرة وعلاقات متشابكة تتقدم المشهد النصي. يبدي علي الياسري مهارات متنوعة في الإفادة من تقنية المونولوغ، لتكون فيه الذات دائماً بمواجهة مع نفسها ومن خلالها مع العناصر والموجودات والمؤثرات الموضوعية الكثيرة في شبكة علاقات أي نص من نصوص هذا الديوان. في قصيدة (عزاء لرجل خسران)، وهي بصوت ضمير المتكلم، يأتي الشاعر ببداية كهذه:” عادةً/ لا أكتب قصيدتي دفعة واحدة/ ولا أحب امرأة دفعة واحدة/ ولا بالسعادة أحلم دفعة واحدة/ أنا لا أريد، كالأبطال، الموت دفعة واحدة). وبهذا الاستهلال يحشد الشاعر عناصره من (القصيدة، والحب، والسعادة، حتى الموت) للتعبير عن فكرته عن الإرجاء والتأجيل. إن واحدة من طرائق التعبير الشعري تتجسد في تمكين العالم الخارجي وتفاصيله في التعبير شعرياً عما تريده الذات من تعبير عنها. الشاعر، بموجب هذا، يرى ذاته من خلال المحيط، يأتي بالمحيط ليتبدى هو من خلاله. وقصيدة (عزاء لرجل خسران) تقدّم مثالاً مقنعاً في هذا السعي.
•144 م2.
جانب من اهتمامات الديوان الأول لإيهاب شغيدل ينصرف إلى ما ينشغل به وما يبديه من أثر للأماكن في حياة النصوص الشعرية. 
معظم نصوص 144 م2 ليست طافية في فضاء مجرد. حتى في النصوص التي لم تسمِّ مكاناً واقعياً بعينه، فإننا غالبا ما نصادف عناية بالمكان النصي بحيث يمكن أن يحيل إلى ما يقاربه أو يشير إليه في الواقع. لكن المكان في معظم النصوص يحيل إلى مدن وأحياء وشوارع ومقاه حاضرة في حياة الشاعر وفاعلة في حياة النص؛ مدينة الثورة، قطاع 25، شارع الرشيد، الكرادة، كهوة وكتاب، حسن عجمي، الطريق إلى كربلاء.
عنوان الكتاب، وهو المفارقة الشعرية الأشد إزاحةً من جانب والأقرب تمثلاً من جانبٍ ثان لهدف التعبير الشعري في هذا الديوان، يشكل دليلاً مهماً لطبيعة اهتمامات الشاعر عبر أغلب النصوص.
 144 م2 هي مساحة معظم المنازل في مدينة الثورة، وهي هنا كناية عن منزل طفولة الشاعر وصباه وعن نمط ثقافي واجتماعي شكل تلك الحياة الحاضرة في الديوان. لكنها في المآل الأخير اختصار كثيف لنبرة الأسى والألم لحياة نصوص الشاعر وإن لم تنشغل بشكل مباشر بعوالم ذلك الحي كانتون الفقر والمعاناة.
إنها نصوص حياة يومية وتفكّر منطلق مما هو يومي؛ (لا شيء سيحدث../ لن يتغير تعريف المادة ولا اسم الكوكب/ حين يعاد تدويري مثلاً إلى زهرة صناعية/ تضعينها في شق الحائط/ لن تنهار سمعة العائلة/ ولا تنفعل حديقة المنزل/ كل ما يحدث هو أنني سأبدو قريباً بمتناولك”.
تتطلب مثل هذه الاهتمامات الشعرية عناية خاصة بتقنيات السرد الشعري، والنصوص هنا تستجيب لهذه الحاجة العضوية. في قصيدة حديثة لا خشية من السرد إذا ما أُتقن شعرياً، بل هو بعض من مقترحات آفاق جديدة للشعر على أن يكون العملُ فيه مبرَّراً، شعرياً وتقنياً، نصوص إيهاب تؤكد إيجابيا هذاً التوظيف وتستفيد منه.