كان المكان والاسم هما في طليعة صعوبات التجربة الجديدة. فالمكان الذي انطلقت منه التجربة هو حانة المرايا في الشارع الذي تؤمّه بنات السوء ويغشاه زبائن من نوع خاص، لكنه في نهاية المطاف كان هو المكان الذي يتجمّع فيه أبناء الجالية الجزائرية في فرنسا.
أما الاسم الذي انطلق من خلاله المشروع فهو «مركز المؤتمر الجزائري الإسلامي للثقافة» واقع جغرافياً مقابل مؤسّسة مسيحية للتعليم هي «معهد سان جاك»، وشتّان بين الاثنين، فالفرق بينهما هو «كما يختلف الشيء الذي يضرب عروقه في التاريخ عن الشيء الذي نشأ حديثاً على الرصيف» كما يقول مالك بن نبي صاحب التجربة في مذكراته. الصعوبة الثانية هذه ليست فقط أنها تضعك أمام تحدّي الإمكانات وسلطة الأغلبية، حيث يعبّر «معهد سان جاك» عن دين الأغلبية الفرنسية وما تمنحه سلطة الأغلبية من إمكانات ضخمة، إنما قد تجرّك إلى مواجهة مع السلطة السياسية الفرنسية نفسها، بحجة أنك تمارس «الدعوة للإسلام» في بلد تنتظمه العلمانية رسمياً!
لكن المهمّ على صعيد التوتر النفسي في الأقل، هو التحدّي الأول؛ أن تتجمّع في حانة بشارع ساقط، ثمّ تنتقل إلى بناية المؤتمر الجزائري القريبة من الحانة. يذكر مالك صراحة أن تحدّي المكان وضعَه في حرجٍ نفسيّ كبير جعله يعيش عقدة، أملت عليه التفكير والمراجعة.
خلال التفكير مع الذات استرجع مالك ما أسماها الحالة النفسية التي تبرز في «سلوك المثقفين المسلمين الذين يتعالون عن المهمّات المتواضعة»، وكيف تتحوّل هذه الحالة إلى عقدة سلوكية تُؤثر في صاحبها فتمنعه مثلاً من تعليم الصغار، أو إلقاء كلمة في لفيف من عامّة الناس بذريعة أن هذا لا يليق به، وأن هؤلاء لا يفهمون، حيث لم تستثنِ هذه العقدة فئة دون أخرى بل كانت تعمّ «طبقتنا المثقفة سواء المطربشة أو المعمّمة» بحسب ابن نبي.
على أيّ حال، لم تكن هذه العقدة لتثنِي مالكاً عن المضيّ في مشروعه مع هؤلاء العمّال، لأنّ الواقع أكثر مرارة منها، وكان له من العزيمة ما جعله يقول: «لو طلب مني في تلك الفترة، أن أدخل لتعليم الحروف في حفرة إسطبل تجمع فيها أبوال الحمير، لدخلت بلا تردّد، فراراً من واقع مرير».
وطّد مالك علاقاته مع عدد من هؤلاء العمال والعاطلين، ثمّ كانت لحظة الصفر. وقد هاله أن القاعة المخصّصة للحديث والتي لم تكن أكثر من صالة حدادة قديمة، قد احتشدت بالناس وغاصت بهم ما اضطر عدداً منهم للوقوف لامتلاء المكان. يذكر مالك أنه تحدّث إلى الحشد بأفكار عميقة لكن بلغة سهلة واضحة «لأنني تعوّدت الحديث للجمهور بلغته، أستطيع أن أبسّط بها حتى الموضوعات الاجتماعية الدقيقة». تفاعل الحضور، وأجهش بعضهم بالبكاء، ولم يُخف مالك تأثّره من تفاعل الناس. وهذه الحالات النفسية الإيجابية ليست محضّ عواطف وانفعالات، بل هي مكوّنات حقيقية؛ هي مادّة واقعية تغسل الشخصية وتطهرها من عقدها، وتستبدل فراغها الموحش بالامتلاء، وتحلّ الهدفية محلّ الضياع. يصف مالك لحظات تفاعل هؤلاء الجزائريين البسطاء مع بعضهم وكيف أنها بدّدت من «على وجوههم علامات البؤس». وبشأنه هو، فقد غمرته السعادة الشاملة حتى قال: «شعرتُ بأنني سعيد، سعيد بأوّل انتصاري على الاستعمار، وبشعور من يخرج من قبر قُبرَ فيه
حياً».
في موضع آخر يشير إلى تأثير هذا التلاحم المكاني والثقافي، بتواصل القلوب؛ بتعبيره: أنها «لحظة اتصال للقلوب، تخلّصت من أسر ما يفرّقها».
مع أن هذه التجربة التغيرية تعود إلى عقود مديدة مضت، إلا أن دلالاتها لا تزال ثابتة؛ فالتغيير ممكن، ولا معنى للقنوط ولا سبيل إلى اليأس والاستسلام للواقع أمام إرادة الإنسان، مهما كان هذا الواقع بائساً
ومراً!