يقف الإنسان دائماً هادئاً مطمئناً واثقاً من نفسه في موقع يشير إلى طبيعة اطلاعه على طبقة معيّنة من طبقات المعرفة عندما يكون مزوّداً بطاقةِ وعيٍ تتلاءم مع هذا الموقع، لأنّ للمعرفة حدوداً يدرك الإنسان منها ما يخصّ المساحات التي يعرفها وتغيب عنه مساحات أخرى لا يعرف عنها شيئاً، وينبغي أن يكون متطلّعاً لمعرفتها كلّما وجد إلى ذلك سبيلاً، وإذا ما كان وعيه قاصراً في هذا المجال فسيعتقد أنّه اطلع على المعرفة كاملة ضمن هذه المساحات ولا يعرف المساحات الأخرى التي غابت عنه ولا يعرف شيئاً عنها، (حفظتَ شيئاً وغابتْ عنك أشياءُ) على رأي أبي نؤاس، لا بدّ من فتح آفاق التفكير والطموح والأمل نحو ما هو غير معروف عابراً ما هو معروف لأنّه هو من يولّد استثارة الرغبة في الذهاب إلى مزيد من المعرفة.
يعرف العالِم الواعي الخائض في مياه المعرفة عن إدراك وقصديّة وعلم أنّه كلّما تقدّم في سلّم المعرفة أكثر انفتحت أمامه فضاءات أوسع تعرّفُهُ بجهله، فتنكبح تطلّعات الغرور والوهم لديه حين يرى ما لا يعرفه أكبر وأوسع كثيراً ممّا يعرفة على الرغم من أنّ ما يعرفه قياساً بالآخرين كبير وواسع جداً غير أنّ الآخرين ليسوا هم المعيار الحقيقيّ، هذه هي المعادلة الاشكاليّة للمعرفة التي لا يعي فلسفتها إلا من خَبِرَ جوهرها وأدرك معناها العميق وأخذ بأسبابها وتدرّج في وعيها، وإلا فإنّ الوهم سيركبه بمجرد الحصول على معرفة سطحية بسيطة كي يبالغ في وصفها والاعتزاز بها والفخر بعنوانها ممّا لا يستحق ذلك على الإطلاق.
تنطلق معرفة الذات وإدراك قيمتها الإنسانية والمعرفية من عتبة فحص ما تمتلكه هذه الذات من قيم ومبادىء ومعرفة وعلم وثقافة وخبرة وتجربة ورؤية، وحين تتجوهر الذات وتكوّن شخصيتها على هذا النحو ستكون المعيار الأساس الذي لا يمكن استبدال أيّ معيار آخر به، فالذات هي التي تراقب صورتها وأداءها وتطورها من دون النظر إلى الآخر – صعوداً أو هبوطاً– بوصفه المعيار الخارجيّ لحركة أشياء الذات الداخلية، فالآخر على هذا النحو يمثّل كائناً إيهامياً بعيداً عن بؤرة الحدث المعرفيّ لا يمكن الاحتكام إليه لأنه غير ثابت وغير مستقرّ ولا يعوّل عليه في هذا السياق، لا بدّ من اتخاذ الذات بتشكيلها الماضي والحاليّ الراهن لقياس حركة التطوّر والتعويل عليها بوصفها معياراً أصيلاً للفحص والمعاينة والحُكم، وإدراك حدود المعرفة ومساحة الاطلاع في كلّ مرحلة من مراحل التطوّر والتقدّم بما يعزّز قيمة الذات معرفياً والاطمئنان على أنّ الحالة تسير في فضائها السليم.
لا شكّ في أنّ معرفة الذات على هذا النوع العلميّ والموضوعيّ وتلمّس الطبقات الخفية التي تنطوي عليها المعرفة، تنقذها من فكرة الغرور المَرَضيّ حين تجد صورة المعرفة أمام شاشة الذات (تنأى وتتسع) كما يعبّر أدونيس في قصيدته (رؤيا)، على النحو الذي يذكّر بالجهل وليس بادّعاء المعرفة وامتلاك الحقيقة، إذ كلّما عرفتَ أكثر جهلتَ أكثر، وكلّما اقتربت من جنّة المعرفة تفاقمتْ أمامك مسافات أكثر هولاً لبلوغ شواطئها وإدراك سبلها والتعرّف الحيّ على كنوزها، حيث لا مناص إلى مزيد من الحبّ والإخلاص والإيمان والانتماء كي تتأهّل لتكون باحثاً أصيلاً في ميدان المعرفة يدرك مخاطر الطريق ولذائذها معاً، فلا مخاطر كمخاطر المعرفة لأجل حياة أسمى وأرفع قيمة وجدوى ولا لذائذ كلذائذها التي ترتفع في سلّم لذائذ الوجود لتبلغ أعلى مراتبها ومقاماتها.
فضاء المعرفة بلا حدود بما يُوجِب على الإنسان طلب المعرفة والعلم من (المهد إلى اللحد) لأنّ مَعينَ المعرفة مَعينٌ لا ينضب، ومن صفات المعرفة التجدّد في اللغة والمعلومة والصيغة والأداة على مستوى التطوّر والتقدّم والانتقال من حال إلى حال ومن مقام إلى آخر، لذا يستحيل الادّعاء بالحصول على المعرفة والتحكّم بحيواتها مهما بلغ الإنسان شأواً في مراتبها واقتنص كثيراً من ثمارها الناضجة، لأنّ الصراع الدائم بين الذاكرة والنسيان أولاً لا تسمح بالحفاظ على المعلومات زمناً طويلاً في الوقت الذي لا يسمح العُمر البشريّ فيه سوى الاطلاع على شيء محدود جداً منها مهما بلغت من الكثرة والكثافة والتنوّع.
يحتاج الاعتراف بهذا الأمر إلى وعي ناضج يتلاءم دائماً مع مستوى المعرفة وقيمتها وقوّة حضورها في الممارسة والفعل والميدان، إذ كلّما ارتفع الإنسان في سلّم المعرفة درجات أعلى تضاعف وعيه أكثر باتجاه ما ينقصه من درجات على نحوٍ أعلى وأوسع وأبعد، فبعد كلّ درجة ينجح في صعودها تنضاف درجات أكثر من قبل عليه أن يرتقي سلّمها، وهكذا حتّى يقتنع بأنّ جهله بالمعرفة يزداد كلّما تقدّم في درجاتها نحو الأعلى.
من يتوقّف عند حدود معرفية مُعيّنة ويشعر بالاكتفاء سيكون الجاهل الأكبر حين يتنازل عقله عن الأمل ويقتنع بما لديه وكأنّه الوحيد في هذا العالم، وسيتوهم بامتلاكه الحقيقة المعرفيّة التي لا يحتاج معها إلى مزيد من التعرّف والاطلاع والبحث والقراءة والطموح والتطلّع، وسينعكس هذا على سلوكه اليوميّ حين يتصرّف بوصفه عالِماً ويفرض على الآخرين الإيمان بعلميّته والتسبيح بحمد معرفته الواسعة الشافية الكافية، وقد يصل في ذلك إلى حافّة الغرور المقيت والتعصّب الأعمى وإلغاء الآخر الذي لا يبلغ قطعاً ما بلغه من مسار بعيد في فضاء المعرفة، فقد ضاعت من أمامه الحدود وتاهت وسائل الاطلاع الضرورية حين وجد نفسه مالكاً لكلّ شيء وغنيّ عن كلّ ما هو خارج ذلك، حيث لا معرفة سوى ما يعرف ولا قيمة لمعرفة لا يعرفها ولا يعترف بوجودها، إذ تحوّل ما لا يعرفه إلى عدوّ يستحق السحق والإفناء والمحو، ولعلّ أفدح كوارث التعصّب بأشكاله وصوره كافة تنبع أساساً من هذا المنبع الجاهل كي تملأ الأرض دماً وخراباً وتخلفاً وفساداً، ويمكن القول هنا: اعرفْ أكثر لتبتعد عن التعصّب وتكون جديراً بحياة جميلة هادئة يحرسها السلام والمحبة واحترام الآخر.