مثلما تتمتع الفنون والآداب بخواصها وسماتها ومهماتها ، فأن التطور التكنولوجي هو الآخر يتمتع بتلك الخواص والمهمات .لكن لكل هذه الأشياء ما يميزها عن الأخرى ، بل يتعدى الأمر الى تحديد الوظائف ذاتها .فليس شرطا أن تتطابق وظائف التكنولوجيا مع وظائف السينما كفن. دون شك أصبح الانترنت منتجا للمعرفة كما أنه وسيلة تراكمية للثورة التكنولوجية ، بل هو الآن وسيلة ثقافية يستخدمها العالم الرأسمالي بشكل مذهل لأنها حالة تنتقل بسرعة فائقة .
يتحتم أن نقر أن الكتابة والقراءة هما يتقدمان بحالتين سايكولوجيتين يخضعان للتفاعلات من أجل الوصول الى أيجاد معنى لكل منهما .فالقراءة تعد حالة معرفية يحصل القاريء من خلالها على معلومات وأفكار، وكما يتعلم منها ما هو أهم وهو استخلاص المبادئ والقيم .لذا فأن القراءة تعد عنصرا أساسا في تطور الفكر البشري وهي تنقله من حال الى حال أفضل .ويذكرنا التاريخ بقدرة القراءة على صنع الكثير من الكتاب والعلماء .
وأمام ثورة الانترنت وقدرته في استيعاب الكثير من التحولات الداخلة في تقدم التراث الإنساني عبر تقنيته السريعة .هنا نسأل : هل نطلق رصاصة الرحمة على الكلمة المطبوعة ؟ هل حقا انتهى الكتاب الورقي ؟ وهل شعر القلم بهزيمته أمام الكلمة الضوئية ؟
أن هذا يذكرنا بما يحدث عند الاكتشافات التاريخية ، فمثلا حين اكتشف المذياع في ثلاثينيات القرن العشرين تولد اعتقاد بنهاية أو موت الكتاب المطبوع ، وهكذا حدث مع ظهور التلفاز كبداية لموت السينما .
نحن نعرف أن الانترنت يتسع بشكل مذهل ، وان مستخدميه في تزايد ، وأن الورقة والقلم في حالة انحسار ، وأنه قد تحول الكثير من الكتاب الى استخدام الأزرار بدلا من الأقلام .فالانترنت يكتسح الحدود ويعبر القارات ،ولا يمكن للمطبوع أن يفعلها مهما تطورت وسائط النقل ووسائل الاتصال الجماهيري ..لكن في الضفة الأخرى ، ضفة الورق ، نجد ما يؤكد وجودها .مثلا نجد معارض الكتاب في العالم تسجل حضورها الفاعل لدى المتلقي ، بل هناك ازدياد في الشراء وكذلك ارتفاع في عدد الكتب المطبوعة .وأشير الى أقرب حدث عشته شخصيا وهو معرض بغداد للكتاب 2019 حيث زيادة واضحة بعدد دور النشر المشاركة ، زيادة عدد الكتب المطبوعة ، زيادة ملحوظة بعدد الزوار .وجازما أقول أن كل كتاب العراق يفضلون الكتاب الورقي . السؤال هنا : هل الكل ،عندنا ، يستطيع استخدام الانترنت الذي يحتاج الى عدد من الاشتراطات منها مصادر الطاقة ، المكان ، الخزن ، أثر الضوء وغيرها التي لا نجدها في القراءة الورقية . أن الكتاب الورقي يمكن أن يكون رفيق سفر أو جولة ولا يحتاج الا لجيب صغير يأويه .
القول الأعم هو أن لكل من الكتاب الورقي والكتاب الالكتروني مزاياه وطرقه وأساليب تفاعله.فالصراع الحاصل يعد أمرا طبيعيا تفرضه حالات التطور التقني ،وهو أمر لا يمكن إيقافه لأنه نتاج العقل البشري ، فكلنا يعلم كم من المفاهيم والاراء انسلخت واندثرت بفعل تطور العقل.
أن الكتاب الورقي يشكل حالة وجدانية وتعاطفا حميميا مع القارئ ،وهو يتمتع بصفة مادية ــ حسية ، كما أنه يمتلك جاذبية خاصة .هذه الخواص وهذه السمات لا نجدها في الكتاب الالكتروني. أن حالة التباين بينهما تشبه الى حد كبير الاختلافات الكبيرة بين المشاهدة السينمائية والمشاهدة التلفزيونية أو المشاهدة من على شاشة الكومبيوتر .ففي الأولى تشعر بطقوس خاصة ، فيها من أحاسيس ومشاعر وتمازج واندماج . بينما الحالة الثانية تتسم بالعمومية والمشاعية وفيها حرية واسعة للحديث والتنقل والحركة وغيرها من السمات التي تؤكد انعدام الإصغاء الكلي .
يشير الكاتب والخبير الفرنسي (برنار بوليه ) الى أن نهاية الصحف المطبوعة وشيكة وتبقى مسألة وقت لا غير .وكذلك يشير(أرون بيلوفر) رئيس تحرير (الغارديان ) : أن تراجع الصحافة الورقية أمر لا مفر منه،كما أنه سيحدث بسرعة لا يتوقعها أحد ، ومن الضروري مسابقة الوقت والتحول الكامل الى النظام الرقمي قبل ان يحدث الانهيار ) .
هنا بعد الكلام السابق الذي يؤكد أن الصحافة الرقمية لها من الجاذبية الكبيرة ، فهي قادرة أن تمنحك الصورة والصوت، وأن تقدم لك أشكالا متنوعة من الابهار التكنولوجي المدهش . فالسيدان (بوليه وبيلوفر ) يهتمان بقضية واحدة وهي مسألة تتعلق بالعائدات الاعلانية للصحافة الورقية من دون أن يدرسا مسالة التداول . واعتقد أن الأمر تمت معالجته من خلال المواقع الالكترونية للصحف التي استفادت من هذا التطور باستخدامه كوسيلة لمنفعتها .لقد أشارت جمعية دور النشر الأميركية في تقريرها العام الى تساوي مبيعات الكتب عبر الانترنت مع تلك المسجلة في المكتبات