محمّد صابر عبيد
النصّ السرديّ مهما كان نوعه وشكله ومنهجه فهو يتكوّن من مجموعة من الشخصيّات بوصفها واحداً من أبرز عناصر التشكيل النصيّ السرديّ، لكنّ شخصيّة معيّنة فيها تقوم بدور (الثريا) في الكشف المضيء عن طبقات خفيّة لا يمكن تسييرها سردياً من دون وجودها.
وتتأكد براعة الروائيّ حين ينجح في صناعة هذه الشخصيّة ضمن حدث سرديّ يحرّض على وجودها لتلعب دور المخلّص السرديّ في مجمل الفعاليّة الروائيّة، وهي تكوين شديد الخصوصيّة ويحتاج إلى ذكاء نوعيّ في التركيب والصياغة لا يتأتّى إلا لكتّاب السرد من ذوي الكفاءة والمهارة العاليتين، لذا لا نجدها إلا نادراً في الأعمال القصصية والروائية وغيرها من النصوص السردية.
فمهما بالغ الكاتب في فرض موضوعيّـته تجاه شخصياته وبحسب أدوارها في طبقات الحادثة السرديّة التي يقوم نصّه عليها، إلا أنّ شخصية معيّنة ومحدّدة ومنتخبة تحظى بعنايته فيمنحها الحضور الأوفر ويحمّلها الدور الأبرز في صناعة جوهر الحدث، ولا يعني الدور الأبرز قطعاً كميّة الحضور الظاهر في الحدث السرديّ بل يخضع ذلك للفعل المصيريّ النوعيّ الذي تنهض به في حسم القضايا التي تحتاج إلى حسم، وتجعل عجلة التطوّر الحدثيّ تتفاعل في سياق بلوغ الهدف وتحقّق المقصد وتوكيد المقولة.
ليست الشخصية الرئيسة ضرورةً هي التي تلعب دور الشخصية السردية المضيئة (الثريا) على الرغم من استئثارها بالمساحة الأكبر من الحركة والحضور، إذ يمكن أن تكون شخصية ثانوية هي التي تنهض بهذا الدور المضيء حين يأتي حضورها في الوقت المناسب والمكان المناسب والحدث المناسب، وهو يفكّ عقدة سردية لا يمكن عبورها إلا بالضوء الذي تسلّطه الشخصية على حركة الحدث وعتمة الفضاء السرديّ، مع أنّ هذا الحضور على مستوى المساحة السردية قد يساوي مساحات شخصيات أخرى في الرواية أو حتّى يقلّ عنها، لأنّ خصوصية الشخصية على هذا الصعيد لا تُقاس بالحضور الكميّ في ميدان السرد بل بالحضور النوعيّ القادر على الحفاظ على فضاء الرواية من التمزّق والضياع.
فالعبرة هنا في طاقة الضوء التي تبثّها هذه الشخصية في تضاريس الحدث وتموّجاته وانتقالاته وتحولاته، كي تضيء ظلاماً سردياً يستحيل استمرار الحادثة الروائية من دون فتحها بنور الشخصية (الثريا)، فحضورها بين الشخصيات الأخرى حضور مغاير ومختلف وقادر على أن يؤلّف وجوداً سردياً حاسماً في أفعاله على مستوى جعل الحدث قابلاً للإقناع والتمثّل، وهذه الفرادة الشخصية النوعية هي التي تنجز المعادلة السردية المطلوبة بما يساعد عجلة الحدث على المضي في استمرارها الطبيعيّ على سكّة السرد.
رواية (العمى) لجوزيه ساراماجو قد تكون أفضل نموذج لتمثّل شخصية (الثريا) وصوغها بطريقة غاية في الدقة والبراعة والذكاء والحيوية والاطمئنان على مستقبل الحاية في فضاء السرد، ففي الوقت الذي قدّمت فيه الرواية مجموعة من الشخصيات المتوازية التي تشتغل تقريباً في مستوى واحد من الأهمية، بحيث لا توجد شخصية رئيسة وشخصيات ثانوية على النحو الذي فرضته السردية التقليدية في مرحلة واسعة من تاريخ السرد، فكلّ الشخصيات تقريباً في هذه الرواية رئيسة وكلّها ثانوية في وقت واحد، لكنّ شخصية محدّدة تفرّدت بدور محوريّ في إطار محدودية الأفعال السردية لبقية الشخصيات هي شخصية (زوجة طبيب العيون) الذي أصابه العمى بعد معاينة طبية اعتيادية في عيادته لرجل عمي فجأة بلا أسباب صحية موجِبة.
إذ أصيب بعد ذلك كلّ من كان له صلة بهذا الطبيب المنحوس بعمى أبيض حليبيّ قادهم جميعاً إلى محتجز خاصّ بعيد عن الناس لشكوك تتعلّق بعدوى العمى، وكانت زوجة الطبيب ادّعت العمى لتصاحب زوجها في موقع الحجز الخاص بهم، وبعد ذلك تقود فعاليّة الإبصار في منطقة العمى فهي (الشخصية الثريا) التي تقدّم حلاً لسير عجلة السرد، ومن دونها يمكن أن يتحوّل الحدث الروائيّ إلى حالة العمى الكامل وتتوقّف فعليات السرد الروائيّ عند هذه النقطة، بحيث يقع الراوي مهما كان نوعه أمام ظلمة حليبية كاملة لن يكون بوسعه تحقيق أيّ نوع من أنواع الرؤية فيصمت تماماً ويستكين وينعزل جانباً.
الحدث السرديّ المركزيّ في الرواية هو حالة العمى التي تفشّت على نحو مرعب ومثير أشبه بالكارثة في كلّ أرجاء المدينة، وتحوّل هذا الحدث المفاجىء إلى بطل وشخصية رئيسة طاغية صارت فيه بقية الشخصيات أدوات تدور حوله وتستجيب لإفرازاته، فالكلمة السردية الفصل في الحدث تؤول في النهاية إلى الحالة التي أثارت فزعاً صحياً وطنياً زعزع أركان الجهات الصحية الحكومية المسؤولة، وجعل فكرة الموت هي الفكرة الأقرب إلى حياة النصّ الروائيّ مما أدّى بشخصيات الرواية جميعاً إلى مصير مشترك أقرب إلى الموت منه إلى حياة لا مستقبل لها على الإطلاق، وبدت الحياة وكأنّها تُشرف على قيامة قريبة لا أمل فيها لحياة جديدة إذ إنّ العمى سيفتك بالناس جميعاً ويوقدهم إلى موت جماعيّ محقّق.
في خضمّ هذا الموت والعبث المجاني تبرز شخصيّة زوجة طبيب العيون (المبصرة الوحيدة) في حفل العمى الشرس الذي لا يرحم، وهو يفتك بالمدينة والنظام والقانون والسلطة وكلّ شيء كي تكون هذه الشخصية الرائية حلاً وحيداً لاستمرار المحكي وتدفّق حيوات السرد داخل الرواية، وهي التي تقود حركة سير الأحداث وتضيء عتمة الدروب السردية في الرواية حين تستعير ضوء كل العيون الأخرى العمياء للشخصيات لترى فيها كلّ شيء، فضلاً عن إضاءة الطريق أمام فضول التلقّي كي يكون ممكناً وقابلاً لفكّ أسر ظلام العمى ومتابعة فيلم العميان بوساطة عينيّ هذه الشخصية الرائية.
ما تلبث العيون العمياء أن يعود لها الإبصار في نهاية الرواية وكأنّ صمود شخصيّة زوجة طبيب العيون بوصفها الشخصية (المبصرة الوحيدة) في الرواية هو من منحها هذا الحقّ بهذا الأمل، فقد شعّ هذا الصمود بكفاح مرير من البداية حتى النهاية وتمكّن أخيراً بطاقة إيثار هائلة على إنهاء حالة العمى، لتصبح الشخصية (الثريا) جوهر العمل الروائيّ ومحوره وزينته.