يستدعيك كتاب جورج بتّاي (عالم
الأدب والشيوعية) إلى أن تكون متضلعاً بفلسفة فريدريش نيتشه لكون هذا الكتاب يبدأ بهذا الفيلسوف الأخير وينتهي به حتى إننا توقعنا هو نفسه كتاب بتّاي
(Sur Nietzsche) الذي صدر في سنة 1945، لكن توقّعنا في غير محله؛ إذ كتب بتاي (عالم الأدب والشر) تالياً، ونُشر بعد وفاته بنحو أكثر من أربعة عقود، تحديداً في سنة 1998، ضمن الأعمال الكاملة ضمن المجلد الثامن تحت عنوان (Le Monde Littéraire et Le Communisme)، ابتداء من صفحة 397 وما بعدها
فيه.
يخوض بتّاي (1897 - 1962) في فلسفة نيتشه ليس بعيداً عنه غرامه بهذا الفيلسوف المؤثر، ويُشرك آخرين في حلبة النقاش - سنتطرق إليهم قدر الإمكان تباعًا - علماً أن عنوان الكتاب وقد تم اختصاره إلى (الأدب والشيوعية) بحسب النشرة العربية، وبذل مترجمهُ حسين عجة - عراقي يعيش في باريس منذ عقود - وله تجارب أخرى في ترجمة نصوص بتاي مثل كتاب (الأدب والشر) الذي صدر، كما هو كتابنا الحالي، عن دار سطور في بغداد سنة 2019.
يقول محمد علي اليوسفي: "في العام 1923 اكتشف بتاي أعمال نيتشه"، وأضاف: "وأحسست عند قراءتي لنيتشه أنني لم أعد أملك ما أضيف، وسوف يظل معجبًا به دون أن يصير من أتباعه، وسرعان ما بدأ يساهم في مجلة "النقد الاجتماعي" الناطقة باسم الحلقة الشيوعية الديمقراطية". ويبدو أنه عاد، مرّة أخرى، إلى نيتشه في كتابه (عالم الأدب الشيوعي) ليناقش قضايا جد حساسة ترتبط بمسالة المسيح وموقف نيتشه منه ضمن مقولة
السيادة.
نيتشه والشيوعية
يفتتح بتاي كتابه بفصل عنوانه نيتشه والشيوعية يقول فيه: "ما بين نيتشه والشيوعية ثمَّ من تفاوت ملحوظ منذ البدء"، كما أن الشيوعية "تطرح على كل واحد منّا سؤال الحياة أو الموت"، ولكن تمت "مواجهة حياة نيتشه وكأنه حكاية تراجيدية بطبيعة الحال"، إلا أن نيتشه "مات من دون أن يكون له خلف.
إن فكره النشط، الملموس، المرتبط بظروف تاريخية قد اختفى برمته معه! إنه يعثر على معقبين يتعاملون معه كميّت، مُمدّد على طاولة التشريح".
لا يرتضي بتاي بأن يكون فقط أحد المعقبين؛ بل يقول: "أنا الوحيد الذي يقدِّم نفسه ليس كمفسِّر لنيتشه وإنما كأني كنتُ هو ليس لأن فكري كان دائماً مخلصاً لفكره إنما هذا الفكر يضع نفسه في الظروف نفسها التي كان فكر نيتشه قد وضع نفسه فينا".
وهذه المقاربة بين نيتشه وبتاي تبدو جميلة ولكن بتاي يقارب أيضاً بين نيتشه والشيوعيين فيقول: "كان موقف نيتشه نفس موقف الشيوعيين لكنه لم يكن قادراً على قبول عالم يكون فيه الإنسان وسيلة وليس غاية في كل مشروع
عام".
ويعمل بتاي على مقارنة شخصه كمفكِّر بإزاء نيتشه وهيجل، وينتقل مباشرة إلى الحديث بأن نيتشه هو الوحيد خارج الشيوعية، ويبدو في الأمر بعض الإعجاب الذي يبديه بتاي بالفيلسوف نيتشه.
يأتي حديث من هذا النوع في الفصل التالي الذي خصّصه بتاي لعلاقة نيتشه بالمسيح وفيه تعويل على مسألة موت الإله؛ بل مسألة السيادة ليصل إلى القول: "إن غيرة نيتشه هي غيرة الإنسان الذي يرغب أن يكون سيداً بلا كذب حيال الكائن المتخيّل الذي يثقل على حب كل البشر لمي يغسلهم.
لقد ماتت السيادة من الألاعيب التي تنظم الخضوع العام لهمْ: نيتشه وحده منْ الذي جعلها مملكة اللحظة"؛ بل اضطلع نيتشه "بسيادة الإنسان في عالم السيادة الذليل هذا أو العبودية
السيادية".
والأكثر من ذلك أن "الإنسان لا يمكنه أن يكون سيداً إلا بفكر سيادي". وينزل نيتشه - بحسب بتاي - إلى مستوى أرضي فيقول: "توجد قيمتين؛ الأولى: تستق الأشياء معناها من ما هو سيادي، والثانية: إن ما هو سيادي يستق معناه من الأشياء".
وهذا تفكيك؛ بل تقويض وإنهاء لكل ما هو متعالي مكانه في الماوراء.
إنها لمقاربة رائعة يجريها بتاي بين نيتشه وأندريه جيد، وكان السيد المسيح محوراً في النقاش لكن بتاي ينتصر إلى نيتشه مقابل جيد، لا سيما رؤية الأخير وهو يسعى للمصالحة بين المسيح ونيتشه، وهنا يدخل كارل ياسبرز على خط نيتشه وجيد، ففي الوقت الذي كان فيه نيتشه ضد يسوع "لم يتغافل ياسبرز أبداً عن التضاد بين نيتشه والمسيح"، لينتهي بتاي قائلاً: "إن عبثية أندريه جيد على هذا الطريق تزعجنا ربما أقل من التوصيف الصارم لكارل ياسبرز".
فاوست توماس مان
ربما "يكون حظ نيتشه منذوراً للسخرية من جانب أولئك الذين يحبونه"، كما يقول بتاي، لكنه هذا الأخير يأخذنا إلى مقاربة غاية في الروعة عندما يقارن بين نيتشه ومواطنه توماس مان عندما كتب الأخير روايته "الدكتور فاوست ِأو فاوستوس" التي كتبها في سنة 1943 ونشرها في سنة 1947، وهي الرواية التي يقول عنها بتاي: "كانت بمعنى ما عن نيتشه مروية تحت صيغة اتهامية"، ويعقد بتاي مقارنات شبه تفصيلية بين شخوص الرواية وشخوص وعينات في حياة نيتشه، ولكنه يقول: "بدلاً من أن تلقي الرواية ضوءً على شخصية الفيلسوف نيتشه تمسح
ملامحه".
ومع ذلك، يقارب بتاي بين أحداث جرت في حياة نيتشه وأحداث تم تسريدها في رواية توماس مان؛ بل وأمراض أصابت شخوص الرواية وأمراض نيتشه شخصياً، فمثلاً يقول بتاي: "يربط توماس مان ما بين المرض وعبقرية نيتشه"، لكن توماس مان، وفي الوقت نفسه، وبحسب بتاي "يخلط ما بين شخصية نيتشه وشخصية فاوست"، وكذلك "يميل توماس مان نحو الخلط بين تعاسة ليفركون - أحد أشخاص رواية مان المذكورة - وكارثة ألمانيا بالقدر الذي تجسّد فيه عموماً حياة
نيتشه".
أما عن شخصية دون جوان فيقول بتاي نقلاً عن جان بول سارتر: "لا يمكن لنيتشه الارتكاز مثل دون جوان على أخطاء العقل".
وحول عن العلاقة بين بودلير وسارتر وبحسب توصيفات هذا الأخير لمنحى الشر، يعتقد بتاي إن نيتشه "لم ير أبداً إلا ضمن التمزّق الذي لمحه بودلير".
وفي مبحث عنوانه "الزمن الحاضر والسيادة"، يتأمَّل بتاي موقف الذات السيادية والعالم الآتي، فيتحدّث عن الكتاب والفنانين عندما ينخرطون في سيادة الأسياد؛ إذ كان "الفن بصورة خاصّة بمثابة التعبير الذاتي عن الأسياد الذين لم يكونوا يشتغلون وبالتالي يمكنهم القيام بفعل آخر يُلحقهم بشيء آخر غير أنفسهم"، كان ذلك بالتأكيد في أزمنة الفن والأدب المقدّسين، ويؤكِّد بأنه "يتحدَّد المقدَّس والدنيوي عبر قطيعة حصرية ناتجة عن التعارض الحاسم بينهما"، ويتحدّث بتاي عن "بؤس الفنان المرتبط بالسيادة التي لا يطالها"، ومن ثم يكيل بتاي النقد إلى الفنانين والكتاب عندما ينحرفون عن الذاتية بوصفها سيادية؛ بل يبقى "الفنان في صميم المجتمع ذليلاً وخاضعاً كعابر سبيل أمام صعود عالم سيادي تقليدي"، وحديث عن السيادة الزائفة لدى الملوك والأسياد الكبار، فهم "بلا تأثير الفن ما كان بمقدورهم إيصال فخامة
ذواتهم"؟