كتاب {نظريّة القصّة القصيرة} غلبة التطبيق على التنظير

ثقافة 2019/09/02
...

د.جاسم الخالدي
 
كتاب (نظرية القصة القصيرة) للناقد د.ثائر العذاريّ الذي صدر عن  ( دار كنوز المعرفة) سنة (2019م) واحد من المحاولات المهمة التي تحاول أن تكشف عن هوية الإبداع من داخل البيت القصصيّ العربيّ؛ فقد اعتدنا دائما أن يُغير هذا الباحث على هذه النظرية أو تلك فيستجلبها ليطبقها على الإبداع العربيّ، فنجد مدى التمحّل الذي يصيب التطبيق، لبعد التنظير عنه، وهذا ما يجعلنا تحت طائلة التطبيق غير المجدي الذي يمكن تلمسه في كثير من مفاصل النقد العربيّ.
أما بصدد  هذه المحاولة فهي خارج هذا النوع من النقد؛ فقد استند التنظير فيها  بشكلٍ كبيرٍ على الجانب التطبيقي؛ بمعنى أن ما سماه الناقد 
بـ (نظرية القصة القصيرة)  كان انعكاسا لقراءته في القصة القصيرة التي بقي يدورُ في حلبتها، كما تبيّن النماذج التي وقف عندها.
توزع الكتاب بين خمسة فصول، تناول الفصل الأول(التعريف وحدود الجنس)، ثلاث مسائل مهمة تقع في صميم القصة القصيرة، أولها: مشكلات تعريف الشكل القصصي؛ إذ ذهب إلى صعوبة إيجاد تعريف جامع مانع للشكل القصصي، فالباحثون بدءًا من إدغار آلن بو مرورا بـ ( شكلوفسكي) يعترفون -كما ينقل العذاري- بصعوبة وضع تعريف دقيق للقصة القصيرة؛ ويرى أن هذه الصعوبة  "لا تنبع من طبيعة الموضوعات التي تعالجها القصة، بل المشكل هو الشكل القصصي الذي يبدو عصيّاً على التحديد". ص13
إذًا ما طبيعة الشكل القصصي التي يقترحها العذاري؟ إنه الشكل القصصي الذي يتبع عملية الكتابة؛ لأن الشكلّ جزءٌ من تجربة الكتابة؛ التي كثيرًا ما تمرّ بمرحلتين: الأولى: مرحلة الفكرة، والأخرى مرحلة الإنجاز، وما دامت الفكرة سابقة على الانجاز؛ فإن الشكل سيكون جزءاً من تجربة الكتابة.
أمّا أسباب التشطي في تعريف الشكل القصصي، والصعوبة التي اعترف بها الباحثون، فيرجعها أوَّلًا  إلى "سطوة الشكل الشعري العريق على النظرية النقديّة، فالشكل في الفنون الشعريّة يمتاز بالانضباط الشديد المحكوم بالأوزان وأشكال النظم". ص17
وهو بهذا يربط  بين الشكل القصصيّ وفرديّة الإبداع، وعندئذ نكون أمام عدد غير قليل من الأشكال القصصية، وهو ما يجعل تحديد الشكل القصصيّ أمرًا في غاية الصعوبة.
أمَّا السبب الأخر، فهو " اتخاذ الحبكة، أساسًا لدراسة مظاهر الشكل القصصيّ" ص18، ويوضح العذاري ذلك بأن الحبكة قد تختفي من  بعض القصص، كالقصص الشخصيّة، التي تكون" أفكارها ومادتها مصممة" ص18، ويمثل لها بـقصّة (الحرب) للقاص ( بيراندللو) عالمياَ، وقصة (المفتاح) لـ (ميسلون هادي) و ( إلغاء خطوط التماس) لـحسب الله يحيى.
ووفقًا لذلك ينظر العذاري إلى الشكل القصصي بوصفه نشاطًا فرديًّا خاصًا" يمثل إمكانيّة إنتاج عدد غير متناه من الأشكال بناء على القواعد الجبريّة السابقة". ص21.
ثم يضع تعريفًا محددًا للقصة مفاده: " هي نص أدبي يصور شخصيّة أو أكثر تمر بموقف(قصصي)، وتتحرك على خلفيّة محددة نسميها (الفضاء القصصي), وهو تعريف يمكن أن يلمَّ بعناصر بناء القصة الرئيسة: البداية، والفضاء القصصي( الزمان والمكان)، وطريقة بناء القصة، والنهاية والإقفال. ص22
ليحدد بعد ذلك، أنماط الشكل القصصيّ التي تتوزع بين: قصة الحدث، وقصة الشخصيّة، وقصة المشاهد، وقصّة الموقف، والمتوالية القصصية والقصة الفراغية.
فإذا تجاوزنا  الأنماط الأربعة الأولى، فإننا نجد أهمية النمطين الأخيرين، ولاسيما النمط الخامس( المتوالية القصصية) الذي يبدو أن الناقد لم يفوت الفرصة بالحديث عنه، بوصفه مشروعا نقديا له. ينظر:ص25.
ولكي يستمر برسم دائرة نظرية القصة القصيرة؛ فهو يحاول أن يبيّن الحدود الفاصلة بين القصة والرواية؛  ولاسيما أن هناك اشتباكا واضحا بينهما؛ بدءًا من وصف القصة بالقصيرة التي تقتضي وجود قصة طويلة. 
ليخلص بعد مراجعة متأنية لعدد من الروايات العالميّة والعربيّة إلى أن الفرق بين الرواية والقصة ليس الطول فحسب؛ بل لعلَّ الطول أقل الفروق أهميّة، فاختلاف هذين الجنسين الأدبيين  بنائيٌّ يطال كل عناصر الشكل وأدوات التعبير" ص34
فمحاولة الناقد – هنا- ليست لفك الاشتباك بين القصة القصيرة والرواية فحسب؛ بل نجده يذهب إلى الفنون البصريّة المحاذية؛ ليقرر أنه بالإمكان جعل الرواية المقابل النوعي  للفلم السينمائي(الروائي)؛ ولكن من الصعوبة اقران القصة بالفلم القصير الذي يقابل الرواية القصيرة. ص35. أمّا القصة فتقابل في الفنون البصريّة الصورة الفوتوغرافيّة التي تجمد لحظة من الحياة لتبرز كل تفاصيلها، بعد أن عزز قوله بعدد من القصص القصيرة التي توضح عمق العلاقة بينهما.
وفي الفصل الثاني( بنية القصة، ميكانيكا القوس والسهم)، والعنوان الثانوي مأخوذ من عبارة لايزابيل اللندي تصور فيها علوية القصة على الرواية؛ فتشبهها بالسهم الذي ينطلق سريعا لإصابة الهدف.
 من تلك العبارة ينطلق العذاري محددا عناصر بنية القصة التي يستهلها بالبداية؛ وهي لحظة التحضير للانطلاق.
فيقف أولًا عند العنوان، عبر سبع تقنيات؛ استخلصها الناقد من قراءته لأهم الاعمال القصصيّة العربيّة، هي: العنوان الموضوعي، والعنوان الايحائي، والعنوان المعادل، والعنوان الرابط، والعنوان التشخيصي، والعنوان المنبئ بالنهاية، والعنوان التنويري( المفتاح).
ثم ينتقل إلى جملة البداية، وأنماطها، ويلخصها بحسب قراءته إلى بداية قصة الحدث، بداية قصة الشخصية، والبداية في قصة المشاهد، والبداية في قصة الموقف، والبداية في قصة الفراغية؛ ولم تطرق إلى البداية في المتوالية القصصية، ويبدو أن قلة النماذج التي اطلع عليها هي التي غيبتها في هذا الفصل. ينظر:60-66.
أما من يحدد البداية؟ فيجيب العذاري على ذلك، بأن " موقف الراوي هو الذي يحدد نوع البداية"، وهي تتوزع بين: البداية المزامنة، أي تكون في بداية الحكاية، والبداية المتوسطة التي تبدأ في وسط البداية، والبداية المقلوبة، التي تبدأ قرب النهاية، والبداية البعيدة، وهي تشبه البداية المزامنة الا ان الرواي يشعرنا في البداية البعيدة أن القصة قد حدثت منذ زمن وأنه يرويها بعد أن انتهت. ينظر: 7
ولكي يلم بأقطاب نظريّة القصة، فإنَّه يتوجه إلى عنصر رئيس من عناصر القصة، هوالفضاء القصصي، الذي تابع تطور هذا المفهوم عند النقاد الغربيين والنقاد العرب، ليصل إلى أن الابقاء على المصطلح مشروط، بالفهم منه " الخلفية التقنية المؤلفة من اللغة والوصف والتشبيه والايقاع، وما أشبه ذلك لتكون أرضية تتحرك عليها العناصر الرئيسة في البنية القصصية من شخصيّات وأحداث وحكي لتوليد أثر شعوري محدد لدى القارئ".ص82.
ولكن كيف يعبر القاص عن هذا الفضاء القصصي؟ وما التقنيات التي يستعين بها؟ فالإجابة عن ذلك، تنطلق من الوصف الذي يعد من أدوات القاص المعتمدة لخلق الجو القصصي، وبعد قراءة نماذج كثيرة من القصص القصيرة، يفلح العذاري  في تصنيف الوصف إلى أربعة أنواع هي:  الوصف الخامل الستاتيكي،  والوصف الخامل الدينامي، والوصف الفعال الستاتيكي، والوصف الفعال الدينامي. 
وفي انتقالة مهمة للتأصيل للقصة القصيرة، يقف العذاري عند تقنية التشخيص، ويحاول ان يفرق بين التشخيص في الرواية والقصة، ففي الأولى" تكون عملية التشخيص أشبه بأخذ شريحة تمثل مقطعًا طوليّا بموازاة عمر الشخصية، كما لو أردنا حساب عمر الشجرة، إذ يقطع جذعها طوليًّا فتظهر حلقات السليلوز النامية التي يمكن بحسابها الوصول إلى الهدف... اما القصة، فيمكن تشبيه التشخيص بشريحة المقطع العرضي، عندما يراد دراسة مكونات جذع الشجرة" ، ص120. من ذلك يظهر، أن التشخيص في القصة القصيرة" عبارة عن مقطع عرضي في عمر الشخصية يصور مكوناتها في لحظة ما من الزمان". ص120، وبعد فإن التشخيص يكون على صنفين، الاول مباشر، عبر تقديم ملخص بصفانها ومواقفها، والآخر غير مباشر من خلال الحوار
 والافعال.
وحين يصل إلى النهاية والإقفال يكون الكتاب قد اكتمل شكله، فهو قد تتابع في عرض كل ما يتعلق بالقصة القصيرة، تنظيرا وتطبيقا، فهو حريص على أن يناقش المصطلح مناقشة علمية ثم يذهب بعد ذلك إلى تطبيقاته على القصة القصيرة، ليصل إلى أن على الرغم من العلاقة الحميمية بين الإقفال والنهايات، لكن " علاقات كل منهما بجسد النص مختلفة عن علاقات الآخر". ص161.
وبعد، فإن كتاب نظرية القصة فريد في طرحه، فلم يقع تحت طائل النظريات الغربية والمصطلحات التي تباينت مفاهيمها بين المترجمين والباحثين العرب، بل راح يدقق ويحقق في المصطلح قبل أن يبدأ بتطبيقه على جسد القصة، وهو ما جعل التطبيق غالبا على الكتاب، وهي ميزة قلما نجدها في المؤلفات التي تناولت القصة القصيرة في عالمنا 
العربي.