( قمر بني هاشم ) رمز البسالة والتضحية.. العباس بن علي بن أبي طالب

العراق 2019/09/03
...

زهير كاظم عبود      تصوير نهاد العزاوي 
البطولة والشجاعة والنخوة والثبات  والحكمة على الموقف قيم لم تقتصر على شخصية من شخصيات الطالبيين  ، فقد كانت زرعا ينمو وينتشر بين أجيالهم ، وظهرت بينهم شخصيات تميزت بخصال جعلتهم يتخطون أقرانهم ، وتسجل لهم صورا تأريخية وملحمية فذة ، ولعل العباس بن علي بن ابي طالب أحدهم . قمر بني هاشم وحامل راية الحسين  (ع) وساقي العطاشى وأبي الفضل العباس وحامل القربة  وبطل القنطرة، وألقاب كثيرة أطلقت على العباس بن علي بن أبي طالب، وأحداث كثيرة مرت كان فيها شاخصا  ودورا مهما ومحوريا، غير أن التاريخ والرواة ركزوا على مواقفه الشجاعة والنبيلة والمؤثرة في واقعة كربلاء ، حيث طغت صورة استشهاده على تفاصيل حياته، القلة من البحوث والدراسات ما تطرقت الى نشأته وشبابه وصور من حياته قبل أن يقرر مع أولاده أن يصاحب أخيه وأمامه وقائده الحسين بن علي (ع)  المعارض لسلطة يزيد بن معاوية، والخارج من المدينة المنورة الى أرض كربلاء بالعراق ، وبناء على دعوة الناس وإلحاحهم عليه بالقدوم، ونصرتهم في قلع يزيد بن معاوية من السلطة وعدم احقيته بالخلافة، بعد أن استجاب لهم وأرسل ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب . 
ولاختزال صورة من تفاصيل حياة العباس بن علي  لابد لنا أن نستعرض بشكل موجز ولادته  وشخصيته واستشهاده .
بقي الإمام علي بن ابي طالب (ع) رابع الخلفاء الراشدين متمسكا بزوجته ابنة عمه  فاطمة بنت محمد بن عبدالله (ع) خلافا لأعراف وعادات العديد من قبائل العرب إذ كان تعدد الزوجات أمرا مستحبا ، فلم يتزوج عليها حال حياتها ، وبقيت تحت عصمته حتى وفاتها ، فاطمة التي ولدت من أمها خديجة بنت خويلد في السنة الخامسة للبعثة النبوية  ، بعد حادثة الإسراء والمعراج بثلاث سنوات ، أنجبت  من زوجها علي بن أبي طالب  ( ع ) أولادها كل من الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم  ( عليهم السلام ) ، وبعد زواجها من الأمام علي توفيت في الثامن والعشرين من الشهر الثامن من عام 632 م  بعد وفاة أبيها بستة أشهر ،  ونالت لقب  فاطمة الزهراء وسيدة نساء العالمين  بحق . 
بقي الأمام علي  ( ع ) معتزا بذكرى زوجته الراحلة ، حتى خطرت له فكرة اختيار زوجة بمواصفات تليق بشخصيته ونسبه ، فتحاور  وتشاور مع أخيه عقيل بن أبي طالب في أن يبحث معه عن امرأة من بطون فحول العرب  ليتزوجها ، فوقع الاختيار على فاطمة بنت حزام بن خالد بن ربيعة الكلابية ، تزوجها الأمام علي بتاريخ الخامس عشر من شهر آيار من العام 647م ، أي بمضي فترة خمسة عشر سنة على وفاة زوجته الأولى فاطمة الزهراء  . 
ولدت لزوجها الإمام علي (ع)  أربعة من الأولاد هم كل من العباس وجعفر وعثمان وعبدالله ، ولقبت بأم البنين  لولادتها البنين فقط من زوجها الأمام علي  (ع)، وهو اللقب الذي أحبت أن يطلقه ويناديها به الأمام علي  (ع)، حتى لايتحسس أو يشعر بالحزن أولاده من فاطمة بنت محمد  (ع) حين يسمعون اسم أمهم مادام اسمها فاطمة أيضا  ، فكان لها ما أرادت . 
كانت نعم الزوجة والأم الرحيمة والحريصة على مشاعر أبناء الإمام علي من زوجته فاطمة الزهراء ، والعباس هو أول أولادها من علي ( ع ) ،  ولد في 15 من أيار عام 647 م ، وكان أول صوت يسمعه هو صوت والده الأمام علي ( ع ) والذي أسماه عباسا ،  وأصبح الطفل الجديد لصيقا بالإمام الحسين  ( ع ) منذ باكورة أيامه الأولى ، فترعرع في أحضان الحسن والحسين ( ع ) حيث كانا يتباريان ويتنافسان من أجل حمله واللعب معه  ، وحين تعلم النطق كان ينادي الحسن والحسين  ( ع ) بكلمة سيدي ، وحريص أن يستمع لمواعظ العقيلة زينب  . 
بدأت تتشكل ملامحه وشكل وجهه الجميل ، كما بدأ جسمه بالنمو والتكامل ، فكان جميلا  وطويلا ، حتى أنه يركب الحصان ورجلاه تخطان بالأرض من شدة الطول ، وتميز بشجاعة اكتسبها من والده و أخوته ، وبدا منسجما في تفاصيل جسمه مع طول قامته وجماله ، ويذكر أن رجلا قدم هدية الى الأمام علي (ع) تبين انه سيف  طويل ومتميز ملفوف بخرقة وثقيل الوزن،  وصادف أن دخل العباس على مجلس أبيه وبعد أن سلم أطال النظر بالسيف، ووالده يركز نظراته عليه ما أثار انتباه الحاضرين في ذلك المجلس بما فيهم والده، فقدم له السيف ليحمله ويحتفظ به طيلة فترة حياته وحتى استشهاده في معركة كربلاء، كما تميز بمحبته للخيول وتفرسه بنسبها، ومهتم جدا بترويضها وركوبها، وهو لم يتجاوز بعد التاسعة من عمره، وحين أشتد عوده لازم أخويه الحسن والحسين ( ع ) وهو يحرسهما بسيفه الطويل بعد أن تم تقصير محمله ليتناسب مع عمره وطوله ،  وتعلم منهما الكثير من العادات والقيم والصفات ،  مما صقل شخصيته وتربيته ، وحرص على أن يكون دقيقا في تصرفاته ومواقفه  ، ومن أخلاقه وأدبه أنه لا يجلس بجوارهما أنما يتخذ من مدخل المجلس مكانا يصغي اليهما ويستمع ،  وكان من الذكاء بحيث يفهم أخوته  من الإيماءة والإشارة وحركة العيون ، حفظ القرآن وكان جميل الصوت . 
ولما تتميز به أخته الكبرى زينب بنت علي  ( ع ) من  فصاحة اللسان وحفظ القرآن  والعبادة والبلاغة والحكمة والعقل وحسن التدبير فقد كان يستشيرها ويركن إليها في قضاياه الخاصة،  و مع أنها كانت أصغر من الحسن والحسين (ع)  إلا انه كان يصغي إليها ويلتزم بنصائحها، ومعجبا بشخصيتها الفريدة بين النساء  ، وبقي على هذا التواصل والالتصاق بها حتى بعد زواجها من أبن عمه عبدا لله بن جعفر بن أبي طالب ، ولعل أكثر المظاهر التي تجسد تلك العلاقة ما حدث في معركة الطف  وهو ما نتطرق إليه آنفا. 
تزوج العباس في العام 617 م بعد أن استشهد والده الأمام علي ( 601 م  ، وبقيت والدته على قيد الحياة حيث توفيت بعد استشهاده بأربع سنوات  ( 684 م ) ،  كما توفيت  زوجته لبابة بعد استشهادة بسنة واحدة ( 61 ) وهناك من يقول أنها توفيت بعد عودتها مع السبايا من الشام بالعام نفسه .  
في معركة صفين عند منازلة الفرسان أمره الأمام علي (ع) أن يتقدم ويتلثم حتى لا يعرفه العدو المتقابل فنزل  وتقابل مع فارس معروف بقوته وشجاعته ، إلا أن سرعة حركة السيف بيد العباس اسهمت وسارعت في قدرته على قتل الخصم ، فنزل بعدها له أشقاء هذا الفارس وهم أولاد أبي الشعناء من أنصار معاوية فقتلهم تباعا ، فنازله والدهم وطلب منه نزع اللثام فأبى ، وأصر أبي الشعناء على أن يرفع اللثام ، حينها أمره الأمام أن يكشف عن وجهه ، حينها صعق أبي الشعناء من رؤيته لشاب في مثل عمر العباس يقتل أولاده الفرسان الثلاثة ، فشن عليه ونازله فعاجله العباس بضربات أسقطته عن فرسه ثم قلع قحفة الرأس فخر صريعا تحت أقدام فرسه . 
وفي واقعة النهروان اختاره الإمام ليحمي معبرا ضيقا لنهر، ، ولم يتمكن احد فرسان الأعداء أن  يعبر النهر ، ومن حاول خر  صريعا بسيف العباس ، وكان جديرا بحماية المنطقة ، أسهم في تسجيل الانتصار .
وحين برزت ملامح فتوته واقتداره في الاشتراك بالمعارك التي خاضها الأمام علي ( ع ) ، تزوج في حياة والده من لبابة بنت عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب وأنجبت  له كل من عبيد الله،  والحسن، والقاسم، وابنتين، وشهد واقعة مقتل الخليفة عثمان بن عفان، وأشترك بعد ذلك في معركة صفين والجمل والنهروان، وكانت صولاته وإقدامه المشهود في تلك المعارك ما جعله من القادة الشجعان والتي أهلته ليكون حامل الراية  في المعارك التي تلتها .
القصص والأحداث التي سجلها التاريخ لتفاصيل حياة العباس بن علي بن أبي طالب متنوعة لكن أكثرها تجسيدا لشخصيته ومآثره وتفرده هي موقعة الطف في كربلا ، فهو في قمة عنفوان شبابه ، وبعد زواجه ورعايته لأولاده وبناته، كان باقيا على منهجه نفسه في أن يتخذ من أخيه الأمام الحسين (ع) نبراسا وقائدا وقدو ،  ولذلك حين قرر الحسين بن علي ( ع ) الخروج من الحجاز إلى العراق كان العباس وأشقاؤه وابناؤه  وزوجته أول من أبدى رغبته في مصاحبة الركب من دون تردد . 
ولأنه ثابت في مواقفه وصلب في عقيدته كان مؤمنا إيمانا عميقا بحقيقة عدالة قضية الحسين ، خرج معه حاملا رايته ، موقنا أنه يتحمل كل ما تمليه عليه ظروف مصاحبة الثائر ضد الحاكم الجائر ، كانت الفرصة الكبيرة لترجمة المبادئ والقيم التي تعلمها من والده وأخوته ، بإرادة صلبة وأيمان صادق وعميق بعدالة القضية حمل الراية وتقدم الصفوف ، وسجل اسمه في أنصع صفحات التأريخ ، ليتعدى العلاقة الأخوية التي تربطه بالإمام الحسين (ع)،  فيتحول الى رمز ثوري ومثال على التضحية بأسمى الغايات وفدائيا ناذرا روحه للجهاد دفاعا عن الحق وعن العدالة، ومؤديا واجبه في حماية أهله وأخوته وأنصارهم ،  فسار في ركاب قافلة الحسين ( ع ) تحت قيادته ولوائه ، وحاول البعض أن يعرض عليه مغانم ومكاسب والأمان على حياته وحياة أولاده ، لكنه استخف بهذه العروض متمسكا ببقائه مع ضفة الثورة  التي يقودها  الحسين (ع) . 
ودوره المتميز في ليلة العاشر من محرم 680 م ، في ملاقاة فرسان العدو ومتطلبات النساء والأطفال وحماية المخيم وشد عزم المقاتلين ، ولعل أوامره بأن يتقدم أخوته وأولاده للقتال دليلا عميقا على بذله الغالي والنفيس في سبيل الانتصار إلى قضية الحسين (ع)، ليكون من بين أوائل من يفتدي الحسين بأرواحهم ،  ومع كثرة جيش العدو وانتشارهم وتقهقرهم أمام التضحيات والسيوف التي يحملها رجال يؤمنون بعدالة قضيتهم وقائدهم، إلا أنهم احتلوا ضفة نهر الفرات ومنعوا الماء عن الحسين وأهله وأعوانه،  وكانت النساء والأطفال أكثر طلبا وإلحاحا في حاجة الماء ، برز حينها العباس على فرسه يفرق الصفوف ويقاتل  ويجندل الفرسان بسيفه  وهو في أشد حالات العطش حتى وصل إلى ضفة النهر وهو يحمل قربته ومعه 20 فارسا، فأرجز يقول : 
 
أنا الذي أعرف عند الزمجرة       
أبن علي المسمى حيدرة 
 
فاغترف غرفة من الماء بيده خلال امتلاء القربة ، لكنه تذكر عطش الحسين والأطفال والنساء ، ففرط بتلك الغرفة وأبى أن يبلل فمه بالماء قبل كل هؤلاء ، عند هذه النقطة يمكن أن تكون مدخلا لتحليل مثل هذه الشخصية الأسطورية في التضحية والإيثار والسمو بالنفس إلى مراتب استثنائية ، وعاد مع القوة التي صاحبته وهم يملؤون القرب بالماء، إلا ان نفاذ كمية الماء والحاجة الضرورية له طلب منه الأمام أن يكرر جلب الماء، فأمتثل للأمر لوحده هذه المرة، وعاد يشق الصفوف وصولا الى النهر، وتمكن من أن يملأ القرب التي يحملها مرة أخرى، وعاد الى المخيم بها ، وعند اشتداد النهار يوم العاشر من محرم اشتد الظمأ  فعاد مرة أخرى وملأ القرب، وعند ركوبه عائدا فوجئ بزمرة كانت تكمن خلف النخيل تتصدى له، فقاتلهم قتالا شديدا وهو عطشان، ولم يتمكنوا منه إلا حين غدر به (حكيم بن الطفيل) الذي جاء من خلفه فقطع يمينه، ثم جاء (زيد بن ورقاء) وبتر يده اليسرى ، ثم هجم عليه القوم بأعمدة ليهوى صريعا الى الأرض متمسكا بفرسه ،  وتمكن الفرس أن يوصله الى ضفة وقوف الأمام الحسين (ع) ، وكان لم يزل على قيد الحياة، حينها فاضت روحه بين يدي الأمام  . 
حين تجتمع البطولة والشجاعة مع الأيمان، وتبرز حقيقة معدن الإنسان في تلك اللحظات الحرجة ، فيأبى أن تلامس شفتيه الماء دون أن يكون أحد شاهد على ذلك ،  يدفعنا ذلك الى القول أن  مأثرة إنسانية فريدة تتلازم مع القيم التي رسمت ملامح حياته ، فكان  بطلا صادقا و شجاعا متوافقا بذلك ، والجود بالنفس أسمى غاية الجود كما يقولون ، فزادها العباس التزاما وتضحية ، حينها قال الأمام الحسين (ع): " الآن انكسر ظهري وقلت حيلتي وشمت بي عدوي" ، وجرت دموعه التي كان يخفيها عن النساء، ولما عرفت العقيلة زينب باستشهاده صرخت أيضا :  "وا أخاه ، وا عباساه ، وا ضيعتنا بعدك "  وبكت ومعها النسوة على 
فراقه . 
كانت والدته أم البنين تترقب أخبار المعركة ، فنقل لها خبر استشهاد أولادها بما فيهم العباس ، إلا أنها كانت تسأل عن الحسين (ع) أكثر من سؤالها عن فلذات أكبادها،  ولما عادت زينب (ع) من الشام وعزتها باستشهاد أولادها، فكانت  تبكيهم وتتفاخر باستشهادهم في صف الأمام الحسين (ع )، وبقيت بعد تلك الواقعة بأربع سنوات أو ثلاث في رواية أخرى لتدفن في البقيع . 
سجل العباس بن علي اسمه بين الخالدين، وترك تأريخا من المواقف والمآثر البطولية الفريدة ليكون مثالا للبسالة والتضحية والشجاعة .