حرب الأشباح بين اسرائيل وإيران تخرج إلى العلن

العراق 2019/09/06
...

ترجمة: انيس الصفار
نفذت اسرائيل سلسلة هجمات في انحاء مختلفة من الشرق الأوسط خلال الاسابيع الأخيرة بهدف منع إيران من تزويد حلفائها العرب بصواريخ عالية الدقة وطائرات مسيرة بلا طيار وأسلحة متطورة أخرى قادرة على تحدي الدفاعات الاسرائيلية. تلك الهجمات مثلت تصعيداً جديداً في حرب الاشباح الدائرة بين إيران واسرائيل التي خرجت الى العلن وباتت تهدد بإشعال مجابهة أوسع.
خلال 18 ساعة في الاسبوع الماضي تسببت ضربة جوية اسرائيلية في مقتل عنصرين من المقاتلين الذين دربتهم إيران داخل سوريا، وأشعل قصف آخر نفذته طائرة مسيرة حريقاً قرب مكتب تابع لحزب الله في الضواحي الجنوبية من بيروت، كما أسفرت ضربة جوية على مدينة القائم العراقية عن مقتل قائد من قيادات الحشد الشعبي.
تتهم اسرائيل إيران بمحاولة تأسيس خط بري للامداد بالاسلحة عبر العراق وشمال سوريا وصولاً الى لبنان، ويقول المسؤولون والمحللون: إن الهجمات المذكورة، وهي الحالة الوحيدة التي اعترفت بها اسرائيل علناً، كان الهدف منها إيقاف إيران عند حدها وارسال اشارة الى حلفائها بأن اسرائيل لن تبدي تساهلاً مع اسطول الصواريخ الذكية التي تتحشد عند حدودها.
تقول "سيما شاين"، الرئيسة السابقة لقسم البحوث في جهاز المخابرات الاسرائيلي التي تعمل حالياً باحثة في معهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب: "إيران منهمكة في بناء شيء ما في المنطقة، ولكن الذي تغير الآن هو أن العملية قد بلغت من التقدم حداً يحتم على اسرائيل التصرف ازاءها بطريقة مختلفة".
يقول المسؤولون الإيرانيون: ان الهجمات الاسرائيلية لن تمر بدون رد. ونشر اللواء قاسم سليماني، قائد قوة القدس الإيرانية والمشرف على العمليات العسكرية السريّة خارج إيران، على تويتر تغريدة تقول "ما ارتكبه الصهاينة جنون وسوف يكون آخر ما يفعلون".
لم تعترف إيران علناً أبداً بأنها تنقل تكنولوجيا الصواريخ، ولكن شخصاً إيرانياً ذا اطلاع على مساعي إيران في المنطقة يقول إنها قد انتقلت خلال السنة الماضية من التركيز على تدريب قوات حلفائها على اساليب الحرب البرية في سوريا والعراق الى تزويدهم بالاسلحة المتقدّمة وتدريبهم عليها.
يقول القادة من جميع الاطراف انهم لا يريدون حرباً شاملة، بيد أن تسارع الخطى في اللجوء الى الضربات العنيفة، التي تنفذ في اغلب الاحيان باستخدام طائرات مسيرة رخيصة الثمن وتقنيات سرية أخرى، ترفع احتمال ان يتسبب اي هجوم مهما كان صغيراً الى انفلات الموقف وتحوله الى صدام. كذلك تسهم اساليب السخرية على الصعيد الجماهيري والتلويح بالسلاح والسياسات المحلية كلها في خلق مناخ متأزم يضطرب على شفير هاوية.
اعترفت اسرائيل بتنفيذها الضربة الجوية في سوريا وقالت: ان الهدف منها كان منع المتشددين من اطلاق طائرة مسيرة محملة بالمتفجرات الى داخل اسرائيل. اما انفجار الطائرة المسيرة قرب بيروت في وقت مبكر من اليوم التالي فقد ادى الى تدمير ما وصفه المسؤولون الاسرائيليون بمعدات آلية ضرورية لمساعي حزب الله لإنتاج صواريخ دقيقة. أكد مسؤولية اسرائيل عن تلك الضربة، التي كانت صحيفة التايمز اللندنية أول من كشف عن الهدف من ورائها، مسؤولان تلقيا تقريراً موجزاً عن العملية.
في يوم الاربعاء قال الجيش اللبناني: إنه أطلق النار على طائرتين مسيرتين من اصل ثلاث طائرات اسرائيلية خرقت المجال الجوي اللبناني قبل أن تستدير عائدة الى اسرائيل.
هذا التأجج يبرز الى الضوء كيف يواجه التوسع الإيراني في معظم انحاء منطقة الشرق الأوسط تصدياً اسرائيلياً مقابلاً شرساً.
تقول "رند سلم"، وهي محللة في معهد الشرق الأوسط بواشنطن: "لقد وسعت اسرائيل المسرح العسكري من حيث الاهداف التي أخذت توجه اليها هجماتها، فالأمر لم يعد مقتصراً على التواجد الإيراني في سوريا، بل أنه الآن شبكة إيران في المنطقة كلها".
على مدى السنوات، وبينما القلاقل والصراعات تنهك الدول العربية، تحركت إيران لإقامة علاقات وثيقة مع القوى المحلية التي يمكن أن تستفيد من رعايتها لها، وفي الوقت نفسه توسع نفوذها من خلالها فيتضخم حجم التهديد على لاسرائيل.
كانت إيران رائدة في هذا الأسلوب حين عززت حزب الله الى أن جعلت منه أقوى قوة عسكرية في لبنان، بمقاتليه المدرّبين الذين وصلت اعدادهم الى عشرات الألوف وترسانته التي يعتقد أنها تضم اكثر من 100 ألف صاروخ وقذيفة مصوبة نحو اسرائيل.
في وقت لاحق أخذت إيران تقوي شبكتها الاقليمية من خلال توفير الاسلحة والخبرة للثوار الحوثيين في اليمن والقوات الموالية للحكومة في سوريا. كذلك قوّت إيران علاقات التعاون بين حلفائها: فنشطاء حزب الله في لبنان يدربون المقاتلين كما يبعث بهم الى الحركات الجهادية الفلسطينية، كذلك نقلت إيران جواً ألوف العناصر الى سوريا لمساعدة الرئيس بشار الاسد على دحر حركة التمرد هناك.
مقتل عنصري الحزب بالضربة الاسرائيلية في سوريا مثال يوضح طبيعة الشبكة الإيرانية المتخطية للحدود. فالمقاتلان حسن زبيب وياسر ظاهر قد نشآ في لبنان ودرسا هندسة الطيران في إيران ثم عادا الى لبنان للعمل مع حزب الله، وفقاً لما أوردته وسائل الاعلام اللبنانية.
تطلق إيران على شبكتها الاقليمية اسم "محور المقاومة"، اعضاء هذه الشبكة يعملون باستقلال ملحوظ داخل بلدانهم، ولكنهم يشتركون في الهدف الأوسع المتمثل بمقارعة النفوذ الأميركي الاسرائيلي السعودي في الشرق الأوسط. امتلاك إيران حلفاء مجهزين عسكرياً في مختلف انحاء المنطقة نافع لهم ايضاً كرادع بوجه الضربات الاميركية الاسرائيلية على إيران، إذ صار من الممكن لأي هجمات من هذا النوع أن تتسبب في اطلاق ردود فعل عنيفة في أماكن أخرى.
تركزت الجهود الاسرائيلية لعرقلة التوسع الإيراني في السنوات الأخيرة على سوريا بدرجة كبيرة، حيث نفذت اسرائيل اكثر من 200 ضربة جوية منذ مطلع العام 2017 على قوافل اشتبهت بأنها تنقل اسلحة، وعلى قواعد ومواقع أخرى لها علاقة بالجهد الحربي الإيراني.
تتجنب اسرائيل غالباً قتل افراد تابعين لحزب الله في سوريا أو الهجوم عليهم داخل لبنان حذراً من أن يجر ذلك عليها ضربات مقابلة. أدى هذا الوضع الى تشكل صيغة تفاهم غير مدونة (اصطلح على تسميتها غالباً قواعد اللعبة) بخصوص أين وكيف يمكن خوض الصراع بين هذين الطرفين وإين لا يمكن ذلك.
بيد أن ضربات أواخر آب كسرت كما يبدو تلك القواعد إذ تسببت بمقتل عناصر لحزب الله في سوريا كما وصلت الى قلب معقل حزب الله في بيروت.
زادت من سخونة الاجواء التصريحات العلنية المنفعلة التي اطلقها الجانبان، التي يبدو أنها كانت موجهة الى الجمهور المحلي لكل جانب بقدر ما هي موجهة الى بعضهما البعض.
لقد اعتاد الجيش الاسرائيلي التهكم على خصومه عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وبعد الضربة التي وقعت في سوريا سخر من الجنرال سليماني، حيث نشر على حسابه في تويتر باللغة الفارسية تغريدة للنيل من مكانته في أعين الإيرانيين.
أما حسن نصر الله، زعيم تنظيم حزب الله، فقد خاطب اتباعه في نهاية الاسبوع متعهداً لهم بصوت مدوِّ بأن يمنع تكرار الهجمات على لبنان. قال نصر الله: "نحن، في المقاومة الاسلامية، لن نسمح لهذا أن يكون نهجاً مهما بلغ الثمن!" ولم يعلن حينها كيف ومتى سترد قوّاته.
رد رئيس الوزراء الاسرئيلي بنيامين نتانياهو متهكماً: "اقترح على نصر الله أن يهدأ، فاسرائيل تعرف كيف تدافع عن نفسها وترد الصاع لاعدائها. أقول الشيء نفسه لقاسم سليماني، انتبه لكلماتك وأكثر منها انتبه لأفعالك."
يعتقد بعض المحللين أن اقتراب موعد الانتخابات الاسرائيلية هو الذي شجع بنيامين نتانياهو على محاولة الظهور بمظهر القوي، كذلك السيد نصر الله، فهو لم يكن بوسعه أن يظهر بمظهر الضعف في وقت تعاني فيه جماعته من أوضاع مالية صعبة جراء العقوبات الاميركية.
يقول طلال عتريسي، وهو متخصص بعلم الاجتماع ومن المهتمين بدراسة حزب الله في الجامعة اللبنانية، إنه يتوقع رداً ثأرياً من الجماعة على اسرائيل كي لا تتحول الهجمات على لبنان الى نسق معتاد. (نشرت هذه المقالة خلال فترة الانتظار التي سبقت رد الحزب على الضربة الاسرائيلية - المترجم).
بعد ذلك اضاف، في تلميح الى الانتخابات الاسرائيلية في 17 أيلول، فقال: "هنالك انتخابات، ونتانياهو بحاجة الى ما يجعله يظهر بمظهر المدافع الحامي لاسرائيل، ولكن إذا لم يصدر منا ردّ فإنه سيواصل فعل ذلك، وعندئذ لن تكون الغاية هي الانتخابات فقط، بل ستصبح ستراتيجية جديدة".
يقول المسؤولون والمحللون: إن تصاعد وتائر الضربات مؤخراً، وامتدادها الى العراق ولبنان، قد جاءا في اطار الرد على تعديلات أجرتها إيران على ستراتيجيتها.
أحد تلك التعديلات يتمثل بمساعي الجنرال سليماني للابقاء على خطوط امداد تمر عبرها شحنات السلاح والمعدات المرسلة من إيران. فإلى ما قبل عام من الان، كما يقول مسؤول مخابرات كبير في الشرق الاوسط، كانت إيران تستخدم طائرات لا تحمل علامات مميزة أو الطائرات التجارية الإيرانية التي تحط في مطار دمشق لكي تصل من هناك الى حزب الله او وحدات قوة القدس في سوريا. بيد أن الضربات الجوية الاسرائيلية المتكررة دفعت إيران الى تغيير طريق الامداد نحو مطارات شمال سوريا بدلاً من دمشق.
عندما ضربت اسرائيل تلك المطارات أيضاً توجه الجنرال سليماني الى تأسيس طريق بري. هذا الطريق يمتد من إيران عبر العراق، حيث يجري تبديل السائقين والمركبات في اغلب الاحيان لتضليل عمليات الاستطلاع، ومن بعد ذلك تعبر الحدود الى شمال سوريا.
يقول المحللون: إن اسرائيل نشطت منذ مطلع العام 2017 في العمل لمنع حزب الله من انتاج صواريخ موجهة عالية الدقّة، وذلك من خلال الجمع بين أساليب الفضح والتحذير والوعيد.
فبسبب اضطرارها للامتناع عن العمل العسكري، بناء على قواعد اللعبة بينها وحزب الله ورغبتها في تجنب الحرب، حاولت اسرائيل في البداية أن تعمد الى "تسليح" عملية جمعها للمعلومات الاستخبارية على أمل أن يؤدي افتضاح مشروع حزب الله الصاروخي كخطر يهدد أمن المنطقة الى حشد ضغط دولي يكفي للاجهاز عليه.
بلغ هذا النهج ذروته في خطاب نتانياهو امام الأمم المتحدة الذي عرض من خلاله صوراً جوية لما قال انه يمثل ثلاثة مصانع للصواريخ الموجهة الدقيقة في قلب بيروت.
يصف "أوفيك رايمر"، وهو ضابط سابق في الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية وكثيراً ما يكتب في شؤون الأمن القومي، تكتيك العلاقات العامة هذا بأنه اسلوب "الفضح القهري". ولكنه يقول ان تلك مرحلة انتهت بتفجير يوم الأحد في بيروت، ولو انه يعود فيحذر من أن تفجير بيروت لم يرقَ بعد على ما يبدو الى مستوى محاولة اسرائيلية شاملة بالوسائل العسكرية لوقف مشروع حزب الله لانتاج الصواريخ الموجهة الدقيقة.
يقول رايمر: "برأيي أننا لا نزال في مرحلة ارسال الاشارات. فنحن لن نمضي الان صوب هذا المشروع ولكن ثمة اشارة الى المجتمع الدولي تقول أما أن نتولى الأمر نحن وعندئذ لن يعلم أحد الى أين تؤول الأمور، أو أن تتدخلوا بأنفسكم وتحاولوا تحريك بعض الخيوط للتأثير في الحكومة اللبنانية وحزب الله أو حتى إيران".  
 
ديفد أم هالبفنغر وبن هابارد ورونن بيرغمان/
عن صحيفة نيويورك تايمز