محمد غازي الاخرس
مضى عليّ زمن منذ أنْ قرأت كتاباً في التراث أطرب له، وها أنا اليوم أقع على واحد هديةً من قارئ كريم. أي والله، كتاب صغير الحجم لكنه عظيم المتعة، أمسكت به وكأنني أمسكت بالجمال من عنقه، ولذا لم أستطع تركه حتى أتيت على معظمه. إنه “النيل في الأدب الشعبي” للدكتورة نعمات أحمد فؤاد، وكانت أصدرته ضمن سلسلة المكتبة الثقافية الشهيرة، تلك السلسلة صغيرة القطع التي قُلدت في العراق عبر سلسلة “الموسوعة الصغيرة”. الكتاب الذي بين يديّ صدر عام 1973، أي في ذروة اهتمام الدول شبه الاشتراكية بالفولكلور الشعبي اصطناعاً لهوياتها الوطنية، وهو أمر جرى في مصر والعراق وسوريا وتمثّل بولادة مؤسسات رائدة تهتم بالتراث المحلي وتعيد له الاعتبار، ابتداءً من الغناء والرقص مروراً بالحكايات وليس انتهاءً بالأمثال والكنايات والشعر. حينذاك، ظهرت مؤسسات فخمة وعلميَّة في عملها وأسهمت بحفظ تراث الشعوب العربية. مؤسسات مثل فرقة الإنشاد العراقية، فرقة الفنون الشعبية، فرقة الخشّابة البصرية، فرقة رضا في مصر وفرقة أمية السورية عدا مجلة (التراث الشعبي) في العراق وتوثيق حياة الناس بسلسلة أفلام وثائقيَّة هائلة بمصر وهي أفلام ما زالت تعرض في قناة “ماسبيرو زمان”.
الحال أنَّ الكتاب الذي بين يديّ ينتمي لهذه الموجة المهمة فهو مكتوب لغرض توثيق ما يكاد يضيع من موروث ارتبط بنهر النيل غناءً ورقصاً وحكايات وأشعاراً ومراثي، وكنت قبلها قد اقتنيت كتاباً آخر عن “فولكلور النيل” لكن ذلك الكتاب حديث وتركّز حول قصص الأولياء والقديسين مسلمين ومسيحيين.
الأحرى أنه في كتاب نعمات أحمد فؤاد ثمة تتبع للفولكلور النهري في أغاني العشاق والملاحين والمزارعين والأطفال والنساء، ولا ننسى الأمثال والحكايات الشعبية ذات الطابع الخرافي بما فيها قصص العفاريت والجن وما ترست من الأساطير الزراعية التي عرفتها مصر منذ أقدم الأزمان. لسوف تعثر أيضا على نيل تختلط هويته بـ”البحر” فيسمى البحر تارة وهو أمر له مثيله في العراق إذ يسمى الفرات في بعض المناطق الغربية بـ”بحر فراه”. فيما يتعلق بالنيل، نسمع الصياد وهو يذاكر سمك البني المصري فنستغرب: صيد العصاري يسمك بني.. وأضرب يا قارح في البحر المالح.. صيادك فالح واصطادك مني. أما زميله المراكبي، المعداوي، فيقول مستعيراً لسان حال الغريب المشتاق لأحبابه: بلد الحبايب بعيده.. نوحي يا عين.. يا من يجيب لي حبيبي.. وأديه من عينيه عين.. النيل هدم جرف.. وأنا دمعي هدم جرفين.. قسما وبالله وصوم العمر يلزمني.. ما فوت حبيبي ولو أعدم بقية العين. على أنَّ كل هذا لا يعادل ما ترسب في ضمير الأمهات المصريات من مراث تستعير من النيل بعض قسوته وصفاته، وهذا المحور يتطلب وقفة خاصة
فانتظروا.