(في زمان) همنجوي أم سمير عزت نصار

ثقافة 2019/09/13
...

د. ثائر العذاري 
 
اختار همنجوي لكتابه بناءً معقداً، فبناء متواليته القصصية (في زماننا) أعقد بكثير من بناء المتواليتين اللتين طالما أشار إليهما بتقدير كبير، فقد قال في أحد حواراته الصحفية إنه لو خيّر بين مليون دولار دخلا سنويا مؤكدا وبين أن يقرأ (أهالي دبلن) و(واينسبرغ، أوهايو) لأول مرة، مرة أخرى لاختار الثانية. وهذه عبارة كافية للتعبير عن مدى تأثره في هذين العملين.
يتألف كتاب (في زماننا) من خمس عشرة قصة، تقع الأخيرة منها وهي ( نهر كبير بقلبين) في جزأين، ووضع لكل قصة عنواناً مستقلاً لا يرتبط بعناوين القصص الأخرى، فالقصة الأولى مثلاً عنوانها (على رصيف ميناء إزمير)، والثانية (مخيم هندي)، والثالثة (الطبيب وزوجة الطبيب)...، وبعد كل قصة وضع قصة قصيرة جدا، وجعل للقصص  القصيرة جداً عناوين تسلسلية، فالتي بعد القصة الأولى عنوانها (الفصل1)، التي بعد القصة الثانية عنوانها (الفصل2 )... وهكذا.
كتب همنجوي قصص هذا الكتاب في أثناء الحرب العالمية الأولى وبعد انتهائها بقليل، ولذلك كانت الثيمة الرئيسة فيها تصوير بشاعة الحرب وآثارها المدمرة للقيم الإنسانية والأخلاقية، فضلاً عن الآثار السيكولوجية على الجنود أنفسهم.
فأما القصص القصيرة فكانت تحكي تجارب نيك آدمز؛ ما عاشه وما شاهده وما سمع به وأثر في نشأته، ونيك آدمز هذا هو بطل معظم أعمال همنجوي، حتى أن بعض النقاد يرى أنه صورة من شخصية همنجوي الحقيقية.
وأما القصص القصيرة جداً فتصور مشاهد من جبهات القتال، بما في ذلك حادثة إصابة آدمز في ساقه عندما كان جنديًا مشاركاً في الحرب، وهي الحادثة التي نلمح آثارها عليه في القصص. 
تصور القصة الأولى (على رصيف ميناء إزمير) الساعات الأولى من عملية تهجير اليونانيين من مدينة إزمير عام 1923، بعد معاهدة لوزان، حيث كانت إزمير قد أصبحت من حصة اليونان بوصفها من المنتصرين، لكن اتاتورك استعادها عام 1922، وتركز القصة على الصور المأساوية مثل انتشار الجثث على رصيف الميناء، والأمهات اللاتي يرفضن التخلي عن جثت أطفالهن الموتى، وكيف أصبحت هذه المشاهد عند الجنود والضباط عادية لا تثير أي انفعالات، بل ربما يرونها مسلية، يصف الراوي عملية الإجلاء فيقول:
كان اليونانيون طيبين أيضاً. وعندما  أجلوا عن المكان أحضروا معهم حيواناتهم التي كانوا يستعينون بها لنقل أمتعتهم، لكنهم بسبب المياه الضحلة لم يكن بإمكانهم اصطحابها معهم، فكانوا يكسرون قوائمها الأمامية ويلقونها في تلك المياه، كل تلك البغال المكسورة القوائم الأمامية وهي تدفع إلى المياه الضحلة. كان ذلك كله عملاً ساراً، إنني أقولها، نعم، إنه عمل سار جداً. 
كانت عملية التطهير العرقي تلك إحدى مآسي الحرب، لكن الراوي كان يرى تلك المأساة بوصفها حدثاً ساراً ومسلياً.
ومع ان الراوي لم يصرح باسمه، لكن يمكن ان نفترض أنه نيك آدمز يتحدث عن ايام خدمته العسكرية.
بعد هذه  القصة مباشرة تأتي القصة القصيرة جداً الأولى التي عنوانها (الفصل1):
كان الجميع سكارى، كل بطرية المدفعية كانت سكرانة ونحن سائرون على طول الطريق المظلم، كنا في طريقنا إلى شامبانيا [في فرنسا]، ظل الملازم ممتطياً حصانه وهو يحدثه “أنا سكران، لقد أخبرتك يا صاحبي القديم، أووه، أنا ثمل جداً.”، مضينا على امتداد الطريق طوال الليل في الظلام. وظل المساعد راكباً وهو يسير إلى جانب مطبخي، وهو يقول لي: أطفئ هذه النار، إنها خطيرة، يمكن أن تُرى من بعيد. كنا على بعد خمسين كيلومتراً من الجبهة ومع ذلك كان الضابط خائفاً من النار، كان السير على ذلك الطريق ممتعًا، كان ذلك عندما كنت عريفًا طباخا. 
تمثل هاتان القصتان مدخلا للمتوالية القصصية، بل إن القصة الأولى وضعت كمقدمة للمتوالية في طبعة عام 1932، مما يشي بنية همنجوي جعل ثيمة نتائج الحرب هي الغالبة على العمل. ثم تأتي القصة الثانية التي عنوانها (مخيم هندي)، والمقصود مخيم للهنود الحمر في متشغان، وتحكي جانبا من صبا نيك آدمز، إذ يصطحبه والده الطبيب معه إلى مخيم الهنود، حيث يقوم هناك بتوليد سيدة كانت ولادتها متعسرة، ويذبح زوج السيدة نفسه بشفرة حلاقة لأنه لم يستطع تحمل صرخات زوجته من الألم، وتظهر القصة مدى رقة مشاعر نيك قبل ان يذهب إلى الحرب. 
وبعد القصة تأتي القصة القصيرة جدا الثانية التي عنوانها (الفصل2)، التي تكمل مشهد المهجرين اليونانيين حيث تظهر قافلتهم على طول ثلاثين ميلا تحت المطر على طريق (قره كاج) الممتد من مدينة أدرنه باتجاه روسيا. 
تقدم الامثلة السابقة فكرة عن بنية التوالي المعقدة التي اختطها همنجوي، فبينما تتابع القصص حياة نيك آدمز وتحولاتها، تعرض القصص القصيرة جدا مشاهد بشعة من الحرب، وثمة واحدة منها تربط بين المتواليتين، وهي القصة (الفصل6) التي تأتي بعد القصة السادسة التي عنوانها (المحارب)، حيث تصور تلك القصة القصيرة جدا حادث إصابة نيك آدمز في الحرب.
 وقد ترجم سمير عزت نصار هذه المتوالية القصصية، وطبعتها دار الشروق الأردنية عام 1987، بيد أن تلك الترجمة لم تكن أمينة، فقد تلاعب المترجم ببنية الكتاب حتى أصبح بعيداً كل البعد عن الأصل.
أضاف نصار قصتين من خارج الكتاب وضعهما في البداية وهما. (ثلوج كيليمانجارو) و(هناك في مشيغان)، وربما كان سبب إضافتهما رغبة الناشر في ان يكون حجم الكتاب أكبر، خاصة أن القصتين أطول بكثير من معدل طول القصة في المتوالية الأصل. ص7 - 57
وقام المترجم أيضا بتغييب القصص القصيرة جدا، إذ قام بتذويبها في القصص القصيرة، فجعل القصة القصيرة جدا (الفصل١) بداية للقصة الثانية (مخيم هندي) وحذف طبعا عنوانها ص٤٩، وفعل هذا معها كلها، فالتي بعد القصة الثالثة اصبحت مقدمة للرابعة ص80 وهكذا، وحذف الاخيرة تماما إذ لا قصة بعدها لتكون مقدمة لها.
وهناك بعض الاسماء التي لم يضعها بمقابلها العربي فجعل مثلا عنوان القصة الاولى (على رصيف سميرنا)، وهذا يجعل فهم القصة صعبا على القارئ العربي، لأنه غالبا لا يعرف ان Smyrna تعني (إزمير) وهذا يجعل معرفة الحدث وتاريخه في غاية الصعوبة.