الهاتف

ثقافة 2019/09/20
...

محمّد صابر عبيد
 
مفردة الهاتف في العربية هي الترجمة الدلاليّة المتداولة لكلمة (Telefon) اللاتينية التي تعني تلك الآلة التي تقوم بنقل الصوت الفوريّ بين مكانَين متباعدين، يتحدّث في كلّ منهما شخص إلى شخص آخر اعتماداً على الصوت فقط، وإذا كان الهاتف الأرضيّ يقتضي وجود سلك رابط بين المكانين فإنّ الهاتف الخلويّ الحديث ألغى ذلك وتكفّلت الأقمار الصناعية العملاقة بهذه المهمة، ولفرط هيمنة الخلويّ على حياة البشر الآن فقد صار الناس جميعاً عبيداً له ويستحيل عليهم الاستغناء عنه حتّى لساعات معدودات، فهو المحرّك الجوهريّ الأساس لفعاليّاتهم وأنشطتهم وعلاقاتهم وأعمالهم وأبحاثهم ودراساتهم وكلّ ما له صلة بهم تقريباً، وتحوّل من مجرّد آلة لها وظيفة تواصلية محددة إلى كائن اخطبوطيّ يرفد الحياة بنسغ حيويّ يغذّي مفاصلها بأهمّ وأندر وأثمن ما تحتاجه من مكوّنات تؤلّف معناها وجدواها
 وحقيقتها.
الفعل (هَتَفَ) يحيل على معنى مدّ الصوت المنطلق من جهة معيّنة إلى أقصى مدى ممكن من دون أن يُرى صاحبه، فهو كما تعرّفه كتب المعاني بدقّة (الصَّوتُ يُسمَع من دون أَن يُرى شخصُ الصائح)، ومنه يروى عن متصوّفين عرفانيين أنّ هاتفاً من السماء يأتيهم في لحظات تجلّياتهم العرفانية كي يخبرهم بأسرار خاصّة غير أرضيّة، لذا جاءت ترجمة كلمة (Telefon) اللاتينية
 بـ (هاتف) على قدرٍ كبيرٍ من التدليل والتناسب في المعنى والصورة والمقصد، وصار الهاتف اليوم بأشكاله الذكية الهائلة التطوّر مثاراً لإعجاز العقل البشريّ وهو يحوّل العالم بين يديّ
 الصائح في الهاتف إلى شاشة صغيرة بحجم الكفّ، مختزلاً اللقاءات الحيّة القديمة التي تقتضي وقتاً ورحلات وتنقلات وتحولات مكانية وفعلية ونفقات وجهود مضنية قد تقود إلى الهلاك أحياناً، فضلاً عن أنّ ذكاء هذا الهاتف ابتكر على هذا النحو مفاهيم جديدة وأبعاد مغايرة للأشياء تتناسب وقوّة تأثير آفاق التطور في أعماق النفس
 البشريّة.
تعكس الأعمال السردية الكبرى في تاريخ الأدب العالميّ الحديث، ولاسيّما الروائيّ منه على نحو أخصّ شبكة من المفاهيم المتعلّقة بهذه الرؤية السردية والحيوية في سياق واحد، ففي رواية “ليلة الملاك” لكارلوس زافون الشهيرة على سبيل المثال انبرت شخصية “مارتين” وهي الشخصية المحورية المركزية في الرواية مخاطبةً شخصية “بيدرو” الارستقراطية الطامحة إلى كتابة رواية ملحميّة أكبر من قدراته:
 (لا تعجبني الهواتف، يعجبني أن أرى وجوه الناس حين يتكلّمون، وأن يروا وجهي أيضاً)، تعبيراً عن ضيقه من آليّة التواصل بالوساطة بعيداً عن تلاحم الصوت والصورة والإحساس المرئيّ في اشتباك الفعل الحواريّ بين الشخصيّات، في الرواية ومن ثمّ في الواقع كذلك، فالكثير من الناس على الرغم من سطوة الهواتف الذكية على مقدّرات الناس
 مازالوا يحاولون التقليل من هذا التأثير وهذه الهيمنة ما وسعهم ذلك، وشخصية “مارتين” في هذه الرواية دليل حيّ على ذلك مع أنّ الشخصية في الرواية تعاني من التباسات ليست قليلة قد تجعلها في نظر بعض المتلقّين ليست على
 ما يرام.
لم يعد مفهوم الحبّ كما كان، ولا مفهوم الحريّة، ولا مفهوم الأسرة، ولا مفهوم العلاقات الاجتماعية، ولا مفهوم الكَرَم أو البخل أو الجمال أو الصداقة أو الحقّ أو غيرها كثير، فإن تتحدّث في أيّ لحظة تشاء مع حبيبتك أو صديقك أو ابنك من أقصى الكرة الأرضية إلى أقصاها (صورة وصوت) في حرق لمسافات تقدّر بآلاف الأميال لهو أمرٌ مهول حقاً، لو أنّ أحداً تحدّث عن هذا الأمر 
قبل قرنين من الزمن مثلاً لوُصِفَ بأنه كافر أو زنديق أو مجنون، فكيف لا تتغيّر المفاهيم ولا يتغيّر الإنسان نفسه على صعيد الإحساس والذوق والرؤية والقناعة والتصوّر والسلوك والتطلّع والرغبة وغيرها، لا يمكن للإنسان أن يحيا الحياة الجديدة السريعة التغيّر والتطوّر وهو لا يتغيّر تغيّراً يتناسب على نحو ما وحجم التطوّر الباذخ الذي لا ينتظر
 أحداً حتماً.
تُرى كيف ينقلُ الهاتفُ مشاعرَ الحبّ بين حبيبين لا يريان بعضهما حقيقة بل صوتاً وصورة فقط؟ وكيف بوسع هذا الجهاز الصغير أن يحمل مشاعر وجدانية بحجم الكون مشحونة بالشوق والعاطفة والأمل والتوهج مخترقا البحار والمحيطات والجبال والسهول والأهوال، من قارّة إلى قارّة، ومن شرق الكون إلى غربه، 
وعلى هذه المشاعر أن تصل بكامل حرارتها ودفقها وصدقها وطاقتها التعبيرية بين الطرفين؟ لا شكّ في أنّ الحالة لا يمكن لها أن تستقيم في ظلّ التشبّث 
بقناعات قديمة زائلة لا تناسب العصر بدعاوى لم تعد ذات قيمة الآن، ولا يمكن لأيّ قناعة تقليدية بالأشياء عموماً أن تصمد أمام هذا الفيض التطوريّ
 المذهل لتحتفظ بسياقاتها القديمة، لا بدّ قطعاً من تغيير منظومة المفاهيم وآليّات الممارسة وأدواتها على نحو أكيد وشامل وحيويّ بما يناسب الرؤية الجديدة أخلاقياً وقيمياً وفعلياً. 
لا تكتفي الهواتف الذكية بأجيالها المتطورة كلّ عام على تقريب المسافات ودحر الأزمان وإلغاء الفواصل والحواجز بين الأشياء، بل تسهم في صناعة وعي مختلف ومفاهيم مغايرة وحساسيات غريبة تتلاءم والتقدم العلميّ والتقانيّ والتكنولوجيّ الحاصل في مجالات الحياة كافة، على النحو الذي يضيف للإنسان الكثير الكثير لكنّه يأخذ منه الكثير أيضاً في معادلة تبادليّة تعطي ربّما بقدر ما تأخذ، داخل فضاء حاسم لم يعد للإنسان فيه أيّ خيار سوى أن يستجيب ويندرج في عجلة سَورة الهواتف الذكيّة النقّالة وهي تمضي باتجاه تطورات مرعبة بين لحظة وأخرى، لم يعد
 أمامه سوى اللحاق بالحراك الدائب لصوت هذا الهاتف وهو يستقرّ في أصغر جيب لأكثر الناس ضآلة، وبوسعه أن يحرّكه ويتحرّك به أنّى 
شاء وكيف شاء من دون الحاجة لإمكانات خارقة تميّزه عن غيره، 
فالأطفال والشباب والشيوخ والنساء في سباق محموم لاقتناء هذه الهواتف وتجديدها كلّما دخلت السوق أجيال جديدة، والخاسر الأوّل هو المعنى الإنسانيّ العميق في الجوهر البشريّ الحامل لمعاني الحريّة 
والحبّ والسلام.