محمد عبد الجبار الشبوط
القدر المتيقن بالحد الادنى ان بلدنا شهد محاولة لاقامة نظام ديمقراطي. لكن هذه المحاولة تعثرت لاسباب كثيرة اطلقتُ عليها عنوان “عيوب التأسيس واخطاء الممارسة”، وانتهى الامر الى اقامة نظام سياسي هجين تلفيقي ليس فيه من عناصر الديمقراطية الا القليل. وهذا القليل بطبيعة الحال افضل من الدكتاتورية. فقد امكن تداول السلطة سلميا وبدون اراقة الدماء عدة مرات. كما اصبح بامكان المواطن العراقي ان يوجه النقد للحكومة. وصار بمقدور اية مجموعة من المواطنين تشكيل حزب سياسي ودخول المنافسة الانتخابية، واطلقت حرية التعبير واصدار الصحف،
وغير ذلك. لكن بعض الناس لا يرى هذه الافضلية للديمقراطية، ويحملون الديمقراطية مساوئ الحال الراهن، ويحملون الديمقراطية ما تعاني منه الدولة من فساد وتدني مستوى الاداء. ولهذا نسمع بعض الاصوات التي تعبر عن عدم الرغبة بالديمقراطية، او في احسن الاحوال الدعوة الى ما يسمونه “المستبد العادل”.
وقد شهد المجتمع البريطاني مثل هذه الدعوات في القرن التاسع عشر، الامر الذي اضطر الفيلسوف الانجليزي جون ستيوارت مل (1806-1873) الى مناقشته في كتابه القيم “الحكومات البرلمانية”. فقد قال مل في الفصل الثالث من كتابه: “تعود الناس لمدة طويلة وربما خلال مدة الحرية البريطانية كلها على ان يقولوا بانه اذا امكن ضمان وجود حاكم مستبد صالح فان نظام الحكم الملكي المطلق يصبح احسن انظمة الحكم”. وقد علق على هذا بقوله: “اني اعتبر هذا القول ابشع سوء فهم عنيف لمعنى الحكومة الصالحة، وما لم نتخلص من هذا الفهم السيء فانه سيظل عاملا يدمر تاملاتنا وابحاثنا بصدد الحكم.”
و”يُبنى هذا القول، كما كتب مل، على الاعتقاد بان تركيز القوة المطلقة بيدي فرد بارز يؤدي الى ضمان القيام بحميع واجبات الحكم بفضيلة وذكاء، فتسن القوانين الجيدة وتنفذ، وتصلح القوانين السيئة، وتسند المراكز الرئيسة الى احسن الاشخاص وتدار شؤون القضاء بصورة صالحة، وتوزع الاعباء على الشعب بشكل خفيف وعادل ويقوم كل فرع من فروع الادارة باعماله بفطنة وطهر وفقا لما تسمح به ظروف البلاد ودرجة تقدمها الادبي والعقلي.” وما اشبه اليوم بالبارحة، حيث ينادي بعض العراقيين بالمستبد العادل متوهمين انه في ظل حكم هذا المستبد العادل سوف يعم العدل ويُقضى على الفساد والبطالة الخ. وهذه التوقعات اكثر ما تكون بعدا عن الواقع المعاش اذ ان المستبد العادل لن يكون بامكانه تحقيق توقعات المواطنين، والسبب ان مستبدا لا يمكن ان يكون عادلا، ولا العادل يمكن ان يكون مستبدا. ولم يحدثنا التاريخ عن وجود “مستبد عادل” الا اذا قصد الداعون اليه معنى اخر للاستبداد لا تقول به معاجم اللغة العربية. وتنم الدعوة الى المستبد العادل عن توجه خطير محوره مقايضة الحرية وسيادة الشعب وحقه في المشاركة السياسية، بمنافع اخرى اقل اهمية من هذه المبادئ الاساسية في بناء الدولة. فالحرية والسيادة الشعبية والمشاركة السياسية هي من اعمدة الحكومة الديمقراطية، والتخلي عنها لمستبد عادل يعني بدء دوران عجلة التحول نحن الدكتاتورية بعد سنوات طوال وعجاف ضد النضال من اجل الحرية. ومن الغريب ان يتخلى أناس عن حريتهم مقابل ما يسمونه المستبد العادل. وحين نتحدث عن الديمقراطيات في دول اخرى يبادر هؤلاء الى القول ان تلك الدول متقدمة وان العراق لا تنطبق عليه حالتها ويفوتهم ان تلك الدول حين بدأت مسيرتها نحو الديمقراطية كانت اكثر تخلفا من العراق. وما مثال بريطانيا ببعيد حين بدات مسيرتها عام 1215 بالحرب من اجل اجبار الملك جون على توقيع وثيقة الماجناكارتا. فقد كانت عبارة عن بلد زراعي ريفي اقطاعي متخلف يحكمه الاقطاعي الاكبر (الملك) بالسيف. لكنها بدات مسيرتها نحو الديمقراطية والدولة الحضارية الحديثة بشعب سعى نحو الحرية ولم يرضَ بالتنازل عنها. والمقارنة يجب ان تكون بين حالها انذاك وحال العراق الان لنجد ان العراق الان افضل في نواحٍ كثيرة من بريطانيا انذاك.
ان جوهر الديمقراطية منع التسلط من قبل اي كان على الشعب بدون ارادته ورضاه، ولا يمكن التخلي عن هذا الامر مقابل توفير وظائف للعاطلين او تحسين الخدمات في هذا المجال او ذاك. فالحرية هي نقطة البدء نحو
التقدم وشرطه.