خـرافــة اللـون الأبـيـض فـي النحـت الكـلاسيكي

ثقافة 2018/11/14
...

مارغريت تالبوت- مجلة "ذا نيويوركر"
ترجمة: مي اسماعيل
 
كانت التماثيل الاغريقية والرومانية غالبا مطليّة بالألوان؛ لكن افتراضات المؤرخين المسبقة طمستْ تلك الحقيقة. والآن يعمل الباحثون على تصحيح هذا المفهوم.  فوجئ الباحث "مارك أيب" خلال عمله سنة 2000 بالتنقيب في مدينة أفروديسياس اليونانية القديمة (تركيا الحالية) بكمية الألوان التي تزيّن المنحوتات المكتشفة.
كان حينها طالبا في معهد الفنون الجميلة بجامعة نيويورك؛ وكان يعتقد (مثل أغلبية الناس) أن التماثيل الاغريقية والرومانية منحوتة من الرخام الابيض الصافي. فكلّ التماثيل المعروضة في المتاحف للابطال والآلهة والحوريّات هي بذلك الشكل، وكذلك الحال بالنسبة للمنحوتات الكلاسيكية الجديدة؛ من نصب جيفرسون الى تمثال قيصر المستقر أمام منتجع "قيصر" في لاس فيغاس. 
 
كذبة يعتزُّ بها الجميع!
كانت مدينة أفروديسياس موطنا لجماعة مزدهرة من الفنانين الراقين حتى القرن السابع الميلادي؛ حينما أحالها زلزال قوي الى ركام. بدأ التنقيب الآثاري الممنهج فيها سنة 1961؛ لتصنيف وترتيب آلاف القطع المبعثرة للمنحوتات. وحينما وصل اليها "أيب" بعد عدّة عقود بدأ يبحث بين القطع؛ وفوجئ أن الكثير منها تحمل آثارا لونيّة: طلاء أحمر على الشفاه، وأسود على خصلات الشعر، وتذهيب لامع على الاطراف. لقرون عديدة كان المنقّبون وأمناء المتاحف يُزيلون آثار الالوان تلك قبل عرض التماثيل والمنحوتات الجداريّة البارزة أمام الجمهور. يقول "أيب"؛ (الذي صار الآن استاذا للفن القديم بجامعة جورجيا): "تصوروا أنّ الكثير من المنحوتات كانت مغطاة بأوراق الذهب الرقيق.. لكنّها حين العرض تبدو وكأنّها خارجة من صفحات كتاب مدرسي قديم: بالاسود والابيض. والفكرة السائدة عموما بأنّ القدماء كانوا يزدرون الالوان الزاهية هي أكثر المفاهيم الخاطئة شيوعًا حول الجماليات الغربية في تاريخ الفن الغربي.. إنّها كذبة نعتزّ بها جميعا". 
حقق "فينزينز برينكمان" اكتشافا مماثلا في أوائل الثمانينيات؛ حينما صمم مصباحا خاصّا ليكتشف نوع وآثار أدوات الحفر والصقل على التماثيل الرخاميّة القديمة (جزءا من دراسة الماجستير في الفن الكلاسيكي والآثار بجامعة لودفيغ ماكسيميليان بميونخ). وحينما بدأ بفحص التماثيل لم يكتشف آثار الازميل والمطرقة؛ بل آثارا لألوان متعددة متنوّعة. يقول: "دهشتُ لمعرفة أنّ ذلك الجانب الاساسي في النحت الاغريقي كان منبوذا من الدراسة.. بدأ هذا الجانب كالهوس الدراسي بالنسبة لي، ولم يتوقف أبدا". 
سرعان ما اكتشف برينكمان أن اكتشافه لم يكن بحاجة لمصباح خاص؛ فالنظر المتفحّص بالعين المجردة لتمثال اغريقي أو روماني يكشف بسهولة آثار الالوان.. يقول: "تبيّن أن النظر مسألة ذاتية؛ وعلينا تحويل أعيننا الى أداة موضوعية للتغلب على الانطباعات القوية المسبقة".. تلك الانطباعات التي ربطت البياض بالجمال والذوق والقيم الكلاسيكية؛ واعتبار اللون إقحاما أجنبيا حسيّا مبهرجا! 
 
لون الشخصية "المصقولة"
الاعتزاز باللون الابيض فكرة جمالية جاءت عن طريق الخطأ؛ فمنذ آلاف السنين تعرضت العمارة والمنحوتات للظروف الجوية مما أدى لتساقط الطلاء الملوّن عنها. وإذ احتفظت بعض الأجزاء المدفونة ببعض اللون؛ فإنّه سرعان ما يتساقط عنها حال تعرضها للهواء وبعد التنظيف من التراب والتكلسات. ومع الوقت تعززت الفكرة الخيالية؛ إذ جادل الباحثون أن فناني الاغريق والرومان تركوا عمارتهم ومنحوتاتهم خالية من اللون كإيماءة مقصودة؛ عززت عقلانيتهم المتفوقة وميزت جماليات انتاجهم عن الفن غير الغربي. ومما سهّل قبول هذا المنظور حقيقة أن النحت المصري القديم كان مغايرا تماما؛ إذ حوى ألوانا ساطعة، حافظت على وجودها لأنّ المناخ الجاف والمحيط الرملي الذي غطاها لم يتسبّب بنفس النوع من التآكل. يقول أوستيرغارد: "لم يجد أحد صعوبة في تقبل تمثال نفرتيتي النصفي، ولم يقل أحدٌ أنّه من المؤسف أن التمثال كان ملوّنا؛ فلأنّه لم يكن من الغرب، كان من السهل قبوله بتعدد ألوانه".  
بدءا من عصر النهضة قدّم الفنانون والمعماريون نتاجات وضعت الشكل (التكوين) في موقع متقدّم على اللون؛ وفاءً لما اعتقدوا أنّه التقليد الاغريقي/الروماني. وفي القرن الثامن عشر، جاءت مقولة "جون ويكلمان" (مؤرخ الفن الشهير): "كلما كان الجسد أكثر بياضا كان أجمل؛ فاللون يعزز الجمال، لكنّه ليس جمالا". كما تحاشى الاكتشافات الاثريّة المتزايدة للمنحوتات الملوّنة بادعائه أنّها لا تعود للاغريق بل لحضارات أقدم اعتبرها أقل "تطورا". واستمر منظور النحت غير الملون يسود اوروبا، معززا فكرة البياض في الجمال؛ ففي المانيا أعلن "غوته" أن.. "تحمل الأمم الوحشيّة وغير المتعلّمين والاطفال ميلا كبيرا للأوان الزاهية؛ بينما يتحاشى ذوو "الشخصيات المصقولة" تلك الالوان في ملابسهم وما يحيط بهم..". 
 
"آلهة ملوّنة"
يعرض "ماركو ليونا" (مدير قسم البحث العلمي بمتحف المتروبوليتان للفنون) زهرية اغريقية من القرن الثالث ق.م، عليها صورة فنان يلوّن تمثالا؛ معتبرا أن تعدد الألوان.. "سر جرى اخفاؤه بأفضل صورة؛ وهو ليس سرا على الاطلاق!". في الثمانينيات بدأ برينكمان وزوجته "أولريك" (مؤرخة الفن والباحثة الآثاريّة) باعداد نسخ من الجص لتماثيل اغريقية ورومانية، ثم تلوينها بألوان تحاكي الوانها الاصليّة. واقتصرت الخيارات اللونية على تحليل البقايا الضئيلة على التماثيل الاصلية. عرضت النتائج في معرض متجول تحت عنوان: "آلهة ملوّنة"، انطلق سنة 2003 وجاب 28 مدينة. 
سبّبت التماثيل صدمة للمتلقين؛ فقد ظهر رامي سهام من طروادة (نحو 500 ق.م) مرتديا سروالا ضيقا منقوشا بألوان جريئة يحاكي ملابس المهرّج، وجاء الأسد الذي وقف ذات يوم حارسا على مقبرة كورنثيّة بلبدة لازورديّة وجسم أخضر مصفر؛ مستدعيا للذهن فنون المايا أو الازتيك! وبجوار التماثيل الملوّنة وقفت نسخ جصيّة بيضاء؛ تبدو مثل فكرتنا المسبقة عن التماثيل الاصليّة. 
بالنسبة للكثير من الناس كانت الالوان صادمة لأنّ تدريجاتها صارخة أو كامدة اكثر من اللزوم. اشتكى "فابيو باري" (مؤرخ الفن في جامعة ستانفورد) سنة 2008 أن تقديم تمثال أعيد طلاؤه باللون للامبراطور أوغسطس في متحف الفاتيكان كان أشبه بــــ"راقصة مبتذلة تحاول ايقاف سيارة أجرة"! ومضى باري منتقدا (وهو لا يزال يرى الالوان صارخة ولا لزوم لها): "يبدو أنّ الباحثين المصممين على نظرية تعدد الالوان في النحت الكلاسيكي يلجأون دائما لاختيار الدرجة الأكثر تشبّعا من اللون المقصود؛ وأعتقد أنّهم يحسّون نوعا من الفخر "الايقوني" هنا: أن الفكرة التقليدية عن البياض المطلق كانت مصدر اعتزاز كبير بحيث شعروا بفخر كبير في 
نقضها". 
لكن بعضا من الارتباك الذي يحسّ به المشاهدون يتعلّق بمبدأ تعددية الألوان في المقام الاول؛ يقول "جان ستوب أوستيرغارد" (الامين السابق لمتحف "Ny Carlsberg Glyptotek" في كوبنهاغن) الذي نظم معرضين في متحفه لنسخ التماثيل الملوّنة؛ أن التماثيل بدت "عديمة الذوق" بالنسبة للكثير من المشاهدين. ومضى قائلا: "لكن الأوان فات على ذلك؛ والتحدي بالنسبة لنا يكمن في محاولة فهم ((منطق)) الاغريق والرومان القدماء؛ وليس أن نقول لهم أنّهم على خطأ"!.