المدينة..واللاتجانس الاجتماعي

ثقافة 2019/09/30
...

نصير فليح
 
في كتابه (المدينة والحياة العقلية) (1903) يبيّن غيورغ سيمل Georg Simmel طرائق التحول من الحياة الريفية الى الحضرية، والتنظيمات الاجتماعية والثقافية الملازمة للحياة الحضرية نتيجة للتكدّس السكاني الكبير، وهكذا يربط العناصر المادية للمدن مع السمات الاجتماعية لسكانها.
ولعلّ هذا أمر مفهوم في سياقات تحول العالم الغربي من مجتمعات ما قبل الحداثة والتصنيع الى مجتمعات الحداثة والتصنيع التي تمت في فترات متباينة من القرون الماضية. ولكن ماذا عن مجتمعاتنا العربية، بما فيها مجتمعنا العراقي، وهي مجتمعات لم تنجز بعد مراحل التحول هذه
البداوة في المدينة
مع ان بعض المدن العراقية الحالية قديمة تعود لمئات او الآف السنين، فإن كثيراً من المراكز السكانية التي باتت تعرف باسم «المدن» في بلادنا نشأت في القرن التاسع عشر. ولكن اذا تمعنا في توصيف هذه المراكز السكانيّة الاكثر كثافة باسم «المدن»، ستظهر جملة اسئلة واشكاليات تتصل بمفهوم «المدينة» نفسه، وما يرتبط به نظريا من «تمدن» او «مدينية».
إن سمات البداوة التي تسللت الى الريف، تسللت الى المدن أيضا، كما يلاحظ علي الوردي بصواب. هذه السمات التي يرى انها تنبع من جذر رئيس واحد هو «التغالب». فعقلية ونفسية «التغالب» في تناقض حاد مع قيم ومعايير التحديث الاجتماعي والسياسي، من قبيل الحقوق والواجبات وحكم القانون والديمقراطية وما الى ذلك.
ولأنّ مجتماتنا واجهت صدمات العالم الخارجي من دون مراحل تمهيدية داخلية، فإنّ «صدمة» متطلبات الحداثة والتحديث جاءت جذرية أشبه بأسئلة مستمرة دائمة تتطلب الاجابة. وما مرّ على البلدان العربية وبلدنا في القرن او القرنين الماضيين كان تغيرات مستمرة تتخللها خطوات قليلة من الانتظام والتكيّف ومواكبة العصر. ذلك أن التشظي الاجتماعي البنيوي من مراحل ما قبل التحديث (البنى والانتماءات العشائرية والمناطقية والطائفية والدينية والإثنية) لم تنصهر في مجتمع يستجيب لمتطلبات التحديث، كما كانت الحال في البلدان الصناعية. وقد أدت مراحل الاستعمار، ثم مراحل الاستقلال، وما أعقب ذلك من أنظمة استبدادية، الى استمرار التعرض لتحديات العصر دونما أجوبة كافية، أو دونما أجوبة إطلاقا. فالنهوض الاقتصادي والتأسيس الديمقراطي خطوات ظلّت متعثرة عرضة للتقلّبات والانقلابات والتعثرات المستمرة.
 
اللاتجانس الاجتماعي
واذا كانت «المدينية» أو «الحضرية»، كطريقة حياة، تتضمن ثلاثة عناصر رئيسية (كما يذهب لذلك لويس ورث Louis Wirth) وهي الحجم الكبير، والكثافة العالية، واللاتجانس الاجتماعي، فإن العنصر الثالث يعني اشياء مختلفة كثيرا جدا حسب السياق الاجتماعي والحضاري الذي يجري فيه. فقدوم جماعات سكانية من مناطق مختلفة لتستقر في مركز كثيف سكانيا لا بدَّ أن يولد درجة أو أخرى من اللاتجانس الاجتماعي، مقارنة بالمجتمعات المحلية الأسبق الأقل كثافة. لكن هذا اللاتجانس محكوم بعوامل عديدة.
فالهجرات المقرونة بالتطور الصناعي وعمليات التحديث، كما حصل قبل قرون في البلدان الصناعية، جاءت في سياق تحول اجتماعي شامل. ورغم الظروف القاسية التي وجد فيها المهاجرون الفلاحون او الصنّاع او الكسبة الذين تعطلت اعمالهم بفعل نمو الانتاج الصناعي الواسع النطاق، فإنّ العوامل الأخرى مثل التنافرات المناطقية او الدينية والقرابية وجدت نفسها في مواجهة بعضها البعض في المراكز الحضرية الجديدة.
وقد تنقسم المناطق والمحلات ايضا في المدينة حسب انتماءات شتى من طبيعة المهن الى طبيعة الدين والعرق والمذهب. لكن مجرى التحولات الجذرية الشاملة التي تقترن بنمو الدول القومية الحديثة، وما يتلازم معها من مفاهيم وممارسات الديمقرطية والمواطنة، قادرة على اختراق البنى القديمة، اجتماعيا ونفسيا، لأنّها تأتي ضمن حركة جذرية ديناميكية مستمرة للتحول من حال الى حال اخرى مختلفة تماما.
وهذا مختلف لا عن الطريقة التي وجد عالمنا العربي فيها نفسه “مرميا” في العصر الحديث (“رغما عنه”، اذا جاز التعبير) بل ايضا عن الهجرات واسعة النطاق من الريف الى المدينة التي جرت اواسط القرن الماضي في اجزاء واسعة مما يعرف بالعالم الثالث او العالم النامي، دونما تهيؤ او تمهيد او احتواء مناسب.
 
مزيد من الانشقاق
لكن في مجتمعات مثل مجتمعاتنا العربية، التي وجدت نفسها فجأة ضمن وضع سياسي جديد بعد تقسيم ممتلكات الدولة العثمانية الى الدول المتعارفة بحدودها الحالية، فإن هذا التحول جاء بارادة خارجية لا صلة لها بالنمو الاجتماعي والاقتصادي الداخلي. والجماعات المختلفة التي وجدت نفسها «شعوبا» و»بلدانا» و»أمما»، كانت تتضمن أصلا لاتجانسات تاريخية دينية وإثنية وقبلية ومذهبية قديمة ضاربة في عمق التاريخ.
وعليه فإنّ التضارب بين منظومات القيم ظل ولا يزال فاعلا بدءا من مراحل الاضطرابات وعدم الاستقرار التي تزامنت مع السيطرة الاستعمارية ثم مراحل التحرر من الاستعمار. أما الانظمة الاستبدادية التي جاءت عقب ذلك، فلم يكن همها إلا البقاء في السلطة بأي ثمن، حتى لو كان بتعميق الانقسامات، وضرب أجزاء من المجتمع بأخرى، او اللعب على العقد والحساسيات التاريخية الدينية والاثنية والمذهبية والمناطقية والعشائرية.
لكن لكل ظاهرة جوانبها العرضية الجانبية غير المحسوبة. وبعد مرور قرن على تلك التقسيمات التي أسست عالمنا العربي ومجتمعاته الحالية، فإن المعاناة الطويلة الأمد التي عاشت فيها معظم شرائح المجتمعات العربية (ولا نقول كلها، فهناك من كان منتتفعا كأفراد أو شرائح من ولائه ودعمه للسلطات الاستبدادية)، باتت تؤشر مجددا الى حاجة عميقة لتحولات جذرية، مما نشهده في عالمنا العربي منذ اعوام منذ ما عرف «بالربيع العربي»، زاد في ديناميكيتها عالم الاتصال والتواصل والاعلام الحالي، عالم العولمة، في منطلق جديد لتخطي تراكمات الماضي الثقيلة المزمنة، بكل ما تتطلبه من مخاضات شاقة.