د. علي المرهج
منذ أن تبنى جون لوك في كتابه “رسالة في التسامح” صار لهذا المفهوم أفقه التداولي في الفلسفة والفكر الديني، ورغم ميل جون لوك للقول بأن الناس متساوون في أصل وجودهم (أي في الفطرة)، إلا أنه في رسالته هذه يميل لتأييد مقبولية وجود فئة أقوى هي من يقع عليها واجب التسامح مع الفئة الأضعف، لأن فكرة التسامح تحمل في طياتها الاعتراف بوجود قوي، وهذا القوي مطلوب منه التسامح! فالتسامح لا يعني كما أظن اعتراف بالآخر بقدر ما يعني العطف على الآخر، أو تحمل إساءته إلى حين، والتقليل من هيمنتنا نحن الأقوياء وقمع رأيه، فهو يشبه اعتراف الأكثرية بحقوق الأقلية، لعطف منها وتكرم، لا لأن الأكثرية ظنت بإمكانية أن تكون آراء الأقلية هي الصحيحة، أو أنه سبيل آخر للوصول للحق، ولذلك يؤكد محمد عابد الجابري أن مفهوم التسامح مفهوم مُلتبس، ولكن لا بديل. السبب في رأيه يعود إلى “أن التسامح ليس مفهوماً أصيلاً في الفلسفة، بل يقع بين الفلسفة والأيديولوجيا، والدليل على ذلك أن هذا المفهوم لم يدخل الفلسفة من باب الفلسفة نفسه، بل من باب الفكر الذي يُعبر عن الصراع الاجتماعي، أو يُحاول التخفيف منه، وبعبارة أخرى من باب الأيديولوجيا”، الأمر الذي يعني أن دُعاة التسامح لا يؤيدوا فكرة التجاوز عن أخطاء الآخرين، بقدر ما يعني أنه (عملية إيجابية هدفها تعديل موقف الإساءة أو إعادة تصحيحه بما يعود بالخير على كل من المُساء إليه، والمُسيء، أو على الأقل إعفاء المُسيء من تهديد أو عقاب المُساء إليه. إنه مُحاولة جادة للتخلي عن الثأر، لذلك هو ينطوي على نمط من السلوكيات الإيجابية للتخلص من شحنات العُنف الداخلي تجاه الآخر المُسيء.
في التسامح نوعان: التسامح مع الذات، والتسامح مع الآخر، الأول يعني “تجنب لوم النفس المُفرط، والشعور بالذنب جراء ما ارتكب الفرد من أخطاء في حق الآخرين، وفي حق نفسه، والاعتراف بالأخطاء.
أما التسامح مع الآخر، فهو عملية مقصودة يتم بمقتضاها التغاضي عن الاساءات الموجهة للذات، من قبل فرد آخر أو أفراد آخرين، وتخفيض الانفعالات والأفكار السلبية عنهم).
لم يكن همَ لوك من طرحه لمفهوم التسامح سوى السعي لفصل المؤسسة الدينية (الكنيسة) عن الدولة، ليُقيد من سلطات رجال الدين، لتكون مهمة الساسة من الذين تعاقد معهم المجتمع إدارة الدولة بعيداً عن هيمنة رجال الدين. لذلك يؤكد لوك على ضرورة الخلاص من فكرة القبض على الحقيقة عند فئة ما، وأنه من بيده مفاتيح الخلاص، فمن طبيعة “أي إنسان أنه يتصور أنه مُهيئ لإنزال العذاب بإنسان آخر بدعوى أنه ينشد خلاص نفسه”. وللتخلص من هكذا نزوع إقصائي، ينبغي علينا التوجه نحو الدولة بوصفها الضامن الحقيقي للحقوق المدنية، مثل: الحرية وتنفيذ القوانين والمساواة، ومن ينتهك هذه الحقوق ينبغي على الدولة حرمانه من هذه الخيرات. ليؤكد لنا “أن خلاص النفوس ليس من شأن الحاكم المدني، أو أي إنسان آخر، ذلك أن الحاكم ليس مُفوضاً من الله لخلاص النفوس البشرية، وأن الله لم يُكلف أي إنسان بذلك، لأنه لا يبدو أن الله قد منح مثل هذه السلطة لأحد بحيث يفرض دينه على الآخرين بالقوة”.
ليصل بنا لوك إلى نتيجة مفادها: أن الإنسان حُر في عبادته، “فلا أحد يولد عُضواً في أية كنيسة، وإلا فإن الدين في هذه الحالة يُنقل بالوراثة من الآباء إلى الأبناء تماماً طبقاً لحق الإرث”. وهذا أمر لا يليق بالذات الإلهية وجعلها الإيمان ومعرفة الدين الحق حكراً على أناس دون غيرهم.
لقد طرح فولتير في كتابه “رسالة في التسامح” رؤية للتسامح تنبني على وصية هي “لا تفعل ما لا ترغب في أن يُفعل بك”، والحال أننا لا نفهم كيف يُمكن لإنسان، يتساءل فولتير انطلاقا من هذا المبدأ، أن يقول لإنسان آخر: “آمن بما أؤمن به أنا، وبما لا تؤمن به أنت، وإلا كان مصيرك الهلاك... وما دُمت لا تؤمن بديني، أيها المسخ، فلا دين لك إذاً”. ولتجاوز هذه الرؤية الإقصائية لمُعتقدات الآخرين يدعونا فولتير إلى نبذ التعصب فيما أسماه “الغلو في التعصب”، وإذا كان الدين المسيحي إلهياً، “يتعين أن تكف يد الإنسان عن التحكم به. فما دام الله هو من صنعه، فالله هو من سيُثبته ويصونه من دون عون من أحد”، فكانت دعوته لـ “التسامح الكوني” واعتبار جميع البشر أخوة، لأننا “جميعاً أبناء أب واحد، ومخلوقات إله واحد”.
أجد أن رؤية (فولتير) أقرب لمفهوم “الاعتراف”، الذي سنتحدث عنه لاحقاً، منها لمفهوم “التسامح”، وإن استخدم مفهوم (جون لوك) ذاته، وأظن لو كان مفهوم التعارف له حضور في المعجمية التداولية في الفكر آنذاك لوضعه فولتير بدلاً من التسامح، لأنه يشتغل لا على مُطالبة الأقوى بالتسامح مع الأضعف كما تشي به رؤية (لوك) للتسامح، ولكننا نجد أن فولتير يطرحه على قاعدة “رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب”، أو طبقاً لقاعدة (فولتير) نفسه “قد أختلف معك في الرأي، لكنَي سأكون على استعداد أن أدفع حياتي كي تقول رأيك”، فأي اعتراف بالآخر أمضى وأجلى من هذا الذي يقول به فولتير، لذلك أميل لوضع (فولتير) ضمن لائحة الفلاسفة الذين وضعوا المبادئ الأولية لفلسفة “الاعتراف”، فطبقاً لرؤيته هذه تكون مبادئ الاعتراف هي:
ـ أن تقول رأيك بحرية
ـ أن تُدافع عن رأيك الحُجة بالحُجة، لا أن تفرضه بالقوة.
ـ أن تعترف بحق الآخر المُخالف لك أن يطرح رأيه بذات الحُرية التي تطرح بها آراءك.
ـ أن لا تُعاند ولا تُصر على التمسك برأيك إن كان من يُخالفك في الرأي حجته أقوى من حُجتك ويمتلك أكثر منك أدلة عقلانية تؤيد صواب رأيه.
استكمل الفيلسوف الألماني (إيمانويل كانت) ما طرحه فولتير حول التسامح بوصفه مفهوماً يحتاج لإعادة تصميم كما أرى، فطرح مفهوم (السلام الدائم) الذي سأستكمل الحديث عنه في مقال لاحق.