قيم القبيلة وأيديولوجية الإرهاب.. اتجاهان متعاكسان

آراء 2019/10/01
...

د. عبد الواحد مشعل
 
نكتفي في هذا المكان بالتعرّض الى مفهوم القبيلة انثروبولوجيا بوصفها  كيانا اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وثقافيا قائما بذاته وقادرا على الدفاع عن نفسه وتحقيق الاكتفاء الذاتي اقتصاديا، كما أنّها تتميز بملكية جماعية وسلطة سياسية يديرها شيخ القبيلة ومجلسها من دون أن يظهر فيها تمايز طبقي واضح، إذ يكون شيخ القبيلة مندمجا مع الجماعة، وبعدّه جزءا لا يتجزأ منها، فهو يأكل أكل أفرادها ويلبس لبسهم ويتميز بالتواضع، فهو المختار من قبلهم بنسبه وحكمته وكرمه وشجاعته، إلّا أنّ هذا المفهوم لم يعد ينطبق كثيرا على النظم القبلية المعاصرة، إذ تحولت الكثير من القبائل المرتحلة الى قبائل زراعية مستقرة، وما رافق ذلك من تحول في شكل السلطة والملكية وظهور نوع من التمايز الاجتماعي، فضلا عن ظهور مظاهر الديكتاتورية حينما أصبح الشيخ يمتلك أراضي واسعة، كما أنّ النظام القرابي ذاته أصابه الكثير من التحلل وفقد ميزة التماسك والانصياع التام لأوامر شيخ العشيرة، وأصبح الولاء تحرّكه المصالح مدفوعا بعلاقات قرابية شكلية، كما أنّ هناك تغيرات اجتماعية وثقافية قد أصابت المناطق القبلية أو الريفية بسبب احتكاكها بالمدينة يوميا كسوق لتصدير المنتجات الزراعية والحيوانية إليها ومصدر تسوق للريفيين أنفسهم.
كما أن ظهور الدولة جعل القبيلة ترتبط بها وتأخذ طابعا جديدا في العلاقة حينما ارتبط شيوخ القبيلة بالسلطة لتحقيق مصالحهم، ما أثر ذلك سياسيا على مواقف أبناء القبيلة الذين يتبعون شيخهم لتحقيق مصالحهم أيضا، ولكسب مكانة اجتماعية معينة.
ينبغي التأكيد بأنّ النظام القبلي في المجتمع العربي وخلال التاريخ من النظم الاجتماعية الظاهرة على النظم الأخرى لما يتمتع به من قدرة كبيرة على امتصاص باقي النظم الاجتماعية، وهذا ما كان موجودا قبل الدعوة الإسلامية في مكة المكرمة حتى إذا ما جاء الإسلام وهذّب القبيلة ونقل عصبيتها الى عصبية جديدة هي العصبية الدينية، إلّا أنّه سرعان ما عاد النظام القبلي ليأخذ دورا مهما في الحياة الثقافية والسياسية للعرب في الحقب اللاحقة، وبغض النظر عن القول إنّ الحضرية عامل مضاد تماما للبداوة إلّا أنّ المجتمع العراقي عاش وخلال تاريخه الطويل صراعا بين البداوة والحضارة، فهو صاحب أولى الحضارات في تاريخ البشر وفي الوقت نفسه يقع على حافة الصحراء، الأمر الذي جعل الحواضر العراقية عرضة بشكل مستمر لغزو القبائل البدوية حينما يصيب مناطقها الجفاف والجوع.
إنّ المفهومين القديم والمعاصر للقبيلة يقوداننا الى استنتاج مفاده أنّ النظم القبيلة أو العشائرية لها ثقافتها الخاصة بها التي لا تقبل أي أيديولوجية مهما كانت  قدرتها في الوصول الى أعماق قيمها وتقليدها لصالح الآخرين، قد تنجح الأيديولوجية الدينية المتطرفة في استمالة  شباب هذه العشيرة أو تلك إلّا أنّه سرعان ما تقلب القبيلة على من يحاول مصادرة ثقافتها ويقهرها، ولعلّ ما حصل في المناطق الغربية من العراق من توغل الإرهاب الى تلك المناطق حكمتها ظروف آنيّة منها رفض بعض الإجراءات أو السلوكيات التي رأتها القبيلة تتناقض مع قيمها الثقافية المحلية، وقد فتح ذلك ثغرة للإرهاب لاستمالة بعض العشائر لصالحه، إلا أن ذلك لم يدم طويلا عندما فرض الإرهاب سلطة مقننة وصارمة على الأهالي وحدد الحرام والحلال وتدخل في صميم القيم القبيلة التي تميل الى التديّن الفطري وترفض رفضا قاطعا التديّن
الايديولوجي.
وقد أدى هذا الى مقاومة الأهالي كلّ الأفكار الغريبة عن قيم وعادات وتقاليد القبيلة وعدّتها تدخلا في شؤونها الخاصة او خطوة محسوبة لسلب هيبتها  ومكانتها الاعتبارية، وبهذا المعنى تكوّنت رؤية عند أبناء العشائر أن كلّ غريب من العادات والتقاليد والأحكام لا يمكن أن تقبله القبيلة، ولعلّ هذا يفسّر في احد جوانبه التناقض والتباين بين قيم القبيلة وأيديولوجية الإرهاب، وان ذلك التباين هو تباين حقيقي يظهر عندما تزول الأخطار المحدقة بالعشائر وثقافتها، ويأتي هذا التصور بعدما نجحت العشائر هناك من وضع حدٍّ للتيارات الدينية بإيديولوجيتها المتطرفة والتي كانت الأخيرة غير متوافقة مع قيم وتقاليد القبيلة سواء على المستوى الديني أو الثقافي، فأبناء القبيلة متدينون بالفطرة ويرفضون بطبيعتهم فرض نظم مقننة تسلخهم عن ثوبهم الثقافي التلقائي، وبناءً على ما تقدم، فإنّ العلاقة بين القبيلة والارهاب علاقة توتر وصراع، وفي هذا الإطار من حقنا أن نسأل أين نقاط الاتفاق بين  الارهاب والقبيلة وهما الكيانان المتضادان؟ 
وما هي الأدوار التي يمكن أن تلعبها العشائر العراقية في مناطق العراق المختلفة في المرحلة الراهنة في محاربة الارهاب والتطرف؟ ثمّ ما هي الآفاق المستقبلية للقبائل أو العشائر في ضوء تصاعد الدعوات الى القيام الدولة المدنيّة؟،
وتتركز أهمية مقالنا  في المرحلة الراهنة بتحقيق هدف يتفق مع هدف عام تسعى إليه الانثروبولوجيا وعلم الاجتماع في زيادة المعرفة النظرية عن المجتمع العراقي في الوقت الراهن، وهذا يستدعي القيام بدراسات مسحيَّة  للوقوف على حقائق الأمر، بهدف زيادة المعرفة التطبيقية من خلال اختبار صحة الآراء والأفكار النظرية في هذا
المجال.