البلاغة الشعبيَّة في روايتي حوراء النداوي

ثقافة 2019/10/08
...

محمد اسماعيل
 
تتدفق لغة حوراء النداوي، في روايتيها «قسمت» و»تحت سماء كوبنهاكن» ببلاغة، تنقل وصفا متحركا للامكنة التي سارت بينها في بغداد «قسمت» وفي الدنمارك «تحت سماء كوبنهاكن».
سبق أن قرأنا للروائي المصري، صبري موسى، المكان بطلا، في رواية “فساد الامكنة” وانقطع الروائيون عن تحريك الامكنة.. جمّدوها.. ثباتا.. وتركوا الأبطال يتحركون والأحداث تتداعى.. داخلها، الى أن جاءت حوراء بروايتيها «قسمت» و»تحت سماء كوبنهاكن» تحرك المكان، وتجعله يترسّب في الاحداث، بدلا من أن يؤطرها. لم تكتفِ الروائية النداوي، ببغداد والدنمارك، مسرحين لوقائع روايتيها، ولم تدعهما إطارين يحتويان التتابع الموضوعي لحبكة السرد، في الراويتين، إنما فعّلتهما بحيث يحثان الابطال على التصرف، ويدفعان الوقائع الى التبلور، بأشكال قصصية متماسكة.
حوراء بطلة لأحداث عاشتها في الواقع، من دون أن تشعر بها.. أصغر سجينة سياسية في التاريخ.. بعمر بضعة أشهر، ونالت اللجوء السياسي، مخترقة حدود العراق.. إبان سلطة النظام السابق، المدجّج ببوليسيات فائقة الاحترافية، وهي في القمائط، في ظل والدين مطاردين.. هما النجم الرياضي الكابتن إياد بنيان.. رئيس نادي الشرطة الحالي، وحرمه!
أحالت حوراء تراكمات اللا وعي، الى روايات، من خلال ما يقصه ذووها والمحيطون بها.. لها عنها.. فيلمس قارئ الروايتين، أنها شغوفة بحياتها “المغامراتية” كما لو عاشت سير روبن هود وابي زيد الهلالي والزير سالم وعلي الزئبق وروبنسن كروزو، وكل ما فعلته.. بعبقريتها الروائية.. أنها حولت القصص التي يفترض بها قد عاشتها قبل بلوغ الحلم، الى كلمات منتقاة من بين آلاف الأخيلة الموؤدة. في عموم مشروعها الروائي، شغلت حوراء المسافة الفاصلة.. زمانا ومكانا.. بين كوبنهاكن وبغداد، من خلال ما عاشته فعلا، وما سمعته عن مغامراتها السياسية.. بوليسيا، وبهذا استوفى المكان، اشتراطات الزمن؛ لأن المكان عبارة عن زمن متجمّد، والزمن مكان سائب. تجربة بعمر مبكر، حققت رسوخا رصينا، يشف عن آت أشد بلاغا وارهف تماسكا في الثراء الجمالي، متقدمة في المنافسات العالمية، من بين روائيين ذوي باع طويل في هذا الميدان “فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيدا”. المعالجات تدل على نضج مبكر.. في الروايتين.. من حيث التتابع الدرامي.. آفة الزمن التي تتآكل أعمار الشخصيات الواردة في الرواية، وتتوهّج برفاه تأملات كاتبة الرواية، على صعيد الزمن الحقيقي.
«تحت سماء كوبنهاكن» صدرت العام 2010 الرواية الاولى لحوار النداوي، أنجزتها من دون تعب.. بسيطة في التدوين لأدب ناضج، فيه اعتدال، وفق متطلبات التتابع الموضوعي لإكمال النص. أما “قسمت” فرواية معلوماتية، نبشت لأجلها حوراء بئرا عميقة بإبرة، على مدى سبع سنوات من التعب الجمالي.. حلا وترحالا.. فعليا وفكريا.. وهي تتجول بين حواري بغداد ومكتبات فارس وأراضيها، حتى اكتملت في العام 2018. يتساوى لدى حوراء في رواية “تحت سماء كوبنهاكن” إقبال الرجل مندفعا في حب امرأة بطريقة تكتسح المحظورات، وقوة خروج الانثى من انكسارها في الاقدام على احتواء اندفاعته، وامتصاص الصدمة. تنشر “تحت سماء كوبنهاكن” عالما سمائي الاحساس، يحيل جمهورية أفلاطون ومدينة الفراهيدي الفاضلة، الى كائنات منفصمة عنه.. موصولة به في الوقت نفسه، بعرى متدلية، من نجمة سائبة في سماء كوبنهاكن.. “تتلولح”.. فوق ثرى بغداد، في رواية “قسمت” التي تمت الى “تحت سماء كوبنهاكن” بعروة توحد اللغتين اللتين عرفت حوراء بهما.
جاء في الرواية الاولى: “علمني حبك يا آدمي وحوائي، ان الكون يحركه الحب” رؤى تدغم الانوثة بالذكورة في توحد عاشق، ولكي تتحقق تحاتج طاقة مهولة، تستمدها من خزين حوراء المتدفق، في كلمات تبثها أجزاءً متلاحقة.
الكلمة تعرف، بانها تركيب صوتي يشير الى موجود وكل ما له علاقة بالموجود، ما يجعل التتابع الدرامي ممكنا، عندما يعني الروائي، حالة لا تعبر عنها إلا كلمة منتقاة من بين مفردات القاموس.
طاقة التوحد في الحب، حالة تفرّدت بها الروائية حوراء النداوي: “يا آدمي وحوائي” في تحت “سماء كوبنهاكن” يناظرها في “قسمت” التاريخ الفيلي المعذّب؛ لأن الرواية مستقاة من تجول حر لحوراء في بغداد، حيث يتمركز الفيليون، بين “الصدرية” وحي الاكراد في “الثورة – الصدر حاليا”. وفي تلك الاحوال كلها، نجد التتابع الدرامي، مرهون بأحكام المكان واشتراطاته، التي تصل الثقافة الروائية العربية، بما انقطع منذ مطلع ستينيات “فساد الامكنة” للروائي المصري صبري موسى، 1963 تحديدا، ليعود المكان بطلا في روايتي حوراء النداوي “تحت سماء كوبنهاكن” 2010 و”قسمت” 2018.