ولأنّني ابن الماء كثيرا ما أسمع الغناء يأتيني منه..
ولأني ابن القصب كثيرا ما أسمع غناءه يحتويني بحنان ...
فحين أحزن يغنيان لي ..
وحين أفرح، وهذا نادر بالطبع، يغنيان لي أيضا...
لذا عشقت القصب والماء والطير والغناء .
فمن ذلك المزمار الذي صنعته من قصب قريتي انسابت منه نغمة عذبة .. استقرت فوق سطح الماء الذي سرعان ما أذاب صوتها.. فاختنقت، كما أنا أختنق حين هرعت لإنقاذها ...
حزينٌ في موتي وأنا أرى مزمار القصب يغرق معنا في الماء ..
لحنٌ
كلحنٍ كرنفالي بهيج تنساب خطواتها بغنج على أرض الزقاق الذي احتضنها منذ طفولتها حتى شروق أنوثتها البهيّة. إنها ذات الخطوات، خفيفة الظل وسعيدة الحياة، التي ترسمها بمهارة المراهقة في كل موعد حب مع الحبيب العائد من وحدته العسكرية.. ها هو يبزغ بطيئا الأسبوع الأخير من الشهر لتفرح عيناها بعينيه وهو ينتظر عند الباب متطلعا للزقاق .. وحين تشرق بحركتها المنسابة كالموج الخفيف يترك الباب مواربة ويختفي خلفها .. تدلف كالعطر سعيدة فيشعلها بجحيم من القبل فتذوب فيه ويذوب فيها ..
تبث الدفء في إيقاع خطواتها فترتفع مناسيب الشوق للحب الجميل ..
تعثرت خطوة واحدة إلّا أنّها استعادت الإيقاع بغنج أبهى وأجمل..
ثانية تنزلق الخطوات بخوف مقيت ..
ـــ ويحي أهو الخوف الذي يغلب فرحي أم هو الفرح الذي يستعجل مصيره ؟؟
تتبعثر الخطوات بلا فرح على بلاط الزقاق بعد أن هطل الرصاص والصراخ الحزين وذلك الصوت الجماعي :لا اله إلا الله
تشظت كالمجنون عباءتها متطايرة في الزقاق بعد أن غزت عينيها صورته مبتسما كالحب على نعش يحمله الشباب..
و.. صوتها الباكي يركض خلفها وهو يردد:
وا آسفاه .. مات الحب
صحف
نهضت مبكرا هذا الصباح من قبري والذي أثار غضب جيراني من الموتى الذي اخذوا يتهامسون فيما بينهم ، ألا أنهم بعد ثواني معدودات وقبل أن تطأ قدماي الطريق العام المؤدي إلى المدينة حتى سمعت صراخهم البائس ينتشر خلفي وكأنه غازات فائضة عن الحاجة :
ــ لا نريدك ..أنت غير صالح لهذا المكان
كان جل اهتمامي أن أستحم وأن أرتدي ملابس جديدة ، فليس من اللائق أطلاقا أن أذهب هكذا بأكفاني إلى يوم عرس أختي العزيزة .
أنا لم يصلني شيئا معينا ملموسا . فلا أحد دعاني كما لم أحصل على بطاقة دعوة يمارسها الناس في مثل هذه المناسبات .كل ما في الأمر هو أنني البارحة بعد جلسة حزينة مع نفسي في مراجعة أموري الحياتية السابقة حلمت أن أختي سوف تتزوج المساء القادم وأن زوجها صديقي الذي شاطرني الساتر الترابي الذي كنا فيه نتقاسم الأكل والماء ممزوجة مع بعض من ذكريات أيام الدراسة الجامعية التي ذهبت سدى مثل حياتنا . صديقي هذا حصدته رصاصة طائشة لم يستطع احد أن يعرف مصدرها . ولان الرصاصة نامت في رأسه فكان من الصعب جدا على الأطباء أخراجها ، فكتبوا في تقريرهم الطبي عبارة “موت نتيجة حزن فائق الألم «
عند أول مدخل المدينة سألت شابا جميلا عن الحمام العمومي فبدا عليه الاستغراب والدهشة حتى أنه غادرني من دون أن يقول شيئا ، سوى أنه مط شفتيه وسار مبتعدا عني . اعتقدت أنه أيضا من سربنا الميت الذي كثيرا ما يطوف هذه الأيام في شوارع المدينة . وهنا أيقنت أن لا حمام شعبي في المدينة فلقد تحول إلى ما يسمونه الأسواق المركزية وقسم آخر اسماه بكلمة لا اعرف معناها أطلاقا لكنني حفظتها لأنها تبدو جميلة وهي مول .
هذه الكلمة الجديدة جعلتني متأكدا بأن المدينة تعيش انقلابا جذريا في العمران خاصة قد تم هدم الكثير من المباني ومن ضمنها المباني الجميلة ..لذا توقفت عند مكان اعرفه جيدا وكنت أحبه كثيرا لأنه كان الرمز الكبير للمدينة وكما نسميه بناية المحافظة .واضح أن المحافظة ماتت مثلما مت أنا والكثير من
الناس . وبناء” على تلك المتغيرات في حياة المدينة قررت أن أذهب إلى السوق الكبير لأتفرج قليلا تغيرا لحالتي النفسية المكتئبة حزنا على تهديم البناية الجميلة ومن أجل أن أصل إلى حفلة عرس أختي التي تبين أنها من سربنا الميت منذ عشر سنوات ، وهذا أفرحني كثيرا لأنها ستعذرني عما أنا عليه الآن .
أثار انتباهي حركة الناس السريعة المصحوبة بالصراخ والضجيج الهائل الذي يذكرني بأصوات الدبابات والمدافع وأزيز الطائرات ..لكن هذا أوقد في داخلي رغبة قوية لان اذهب إلى مكتبة المدينة لأعرف من خلال الصحف ما يحدث الآن في المدينة .
المؤسف وجدت الصحف على الرصيف مغطاة بغبار قديم .. قرأت ما استطعت قراءته ..ضجرت.. فقررت أن أجمع الصحف كلها وأغادر مسرعا إلى قبري حيث استقبلني أصدقائي الموتى صارخين بانفعال كبير ..ورميت الصحف لهم كعظام لكلاب جائعة تلقفوها بسرعة مطلعين على عناوينها وأخبارها ..
وقبل أن أصل قبري وجدت أصدقائي الموتى وهو يمزقون الصحف و يهرعو ن مسرعين إلى قبورهم ليناموا بنفوس راضية مرضية...